كتبت يافا المناصرة طالبة في جامعة بيت لحم
يحتلج في أنفاسها ، يحوم في كلماتها ، تأوه مشحون بالألم ، تنهيدة تمهد للانعتاق من تبرايح ألم غض أمان قلبها ، شعرت به في حديثها عن قريتها ( وادي فوكين) ، تقول جدتي ( كان شهر نيسان من نكبة ١٩٤٨ ، أبلغ من العمر ٩ سنوات أنذالك ، كنت مع والدي في البيدر، عندما نزح أهالي القرى المجاورة لدير ياسين ، وروا ما تناقلته أخبار الشاهدين على مجزرة دير ياسين )، فسألت ببراءة طفلة لم تتجاوز السادسة ، عن ما هية التهجير والنكبة ، لتبدأ رحلة الذاكرة الحاضرة في غياب الوطن ، فأجابت : ( أحداث قتل وتعذيب واعتداءات قامت بها العصابات اليهودية بحق شعبنا ، أجبرتهم ويلات ما شهدوا على النزوح).
رغم حداثة سن جدتي ابان النكبة الا انها كانت تعي جيدأ ما يحصل ، تقول :(بعد حوالي الشهر من مجزرة دير ياسين ، مطلع شهر أيار ،كان موسم حصاد القمح ، كنت ووالدي وأخوتي في الحصاد ، اذ تدوي أصوات انفجارات زعزعت المكان ، الجماعات اليهودية هاجمت البلد ، صاح أحدهم ، تفرق أهالي القرية ، تفرقت عن أبي واخوتي ، هربت بين أشجار الزيتون ، وخلفي وابل من الرصاص ، اختبأت في جوف حفرة وجدتها في جدار صخري كانت مغطاة بالأشجار ، رايتهم بلباسهم العسكري وبأسلحتهم المدججة ، قتلوا امرأة أمامي ، ، كانت تنظر الي عندما لفظت أنفاسها الاخير ، ، بكيت بصوت مشجون الى ان استسلمت للنوم ، لبثت في مكاني يوم كامل ، استيقظت على أصوات أهالي القرية ، مجتمعين حول جثة الامرأة وسمعت صوت اخي خرجت مسرعة اليه ، احتضنته بقوة وببكاء نحيب ) .
استشهد ٥ أشخاص من أهالي القرية ، وذلك لم يكسر عزمهم في الحفاظ على الارض بل زادوا تمسكا بها ، تقول جدتي ( بعد ما شهده أهل القرية في ذلك اليوم ، أخذوا بالدفاع عن القرية من هجمات العصابات اليهودية ، فشكلوا بداية فرق مراقبة ليلية للدفاع عن القرية وما لبثوا الى ان اشتركوا مع الثوار من القرى الاخرى ، استمر الحال هكذا ما يقرب الخمس السنوات حتى شهر حزيران من عام ١٩٥٤ ،عندما ضُرِبت القرية بالمدافع الحربية الاسرائيلية ، قصفت معاقل الثوار والبيوت و البيادر ، واشتدت الحال على أهل القرية ما دفعهم للنزوح الى القرية المجاورة(.
في نزوح أهل القرية عام ١٩٥٤ سطّروا قصة تحد وصمود في العودة بعد اللجوء الاول، تقول جدتي (أثناء نزوحنا الى قرية نحالين، كنا نذهب بالخفاء ليلا لحراثة وزراعة أراضينا في القرية متسلحين بأسلحة بسيطة، وعند بزوغ الفجر نرجع للقرية التي نزحنا اليها، واستمر الحال هكذا حتى عام ١٩٥٨، ففي هذا العام عدنا الى البلدة بمساعدة الثوار والجيش الاردني، وما مكثنا يومين حتى جوبهنا بهجمات العصابات اليهودية ما دفعنا للنزوح مرة أخرى الى مخيم الدهيشة).
في لجوؤهم الى مخيم الدهيشة الذي استمر ١٤ عاما، واظب أهل القرية بالتوجه يوميا لزراعة الارض وفالحتها، حتى عادوا اليها رويدا رويدا عام ١٩٧٢، عندما ظفر أهل القرية بالعودة لبلدتهم ما لبث عقدا من الزمن حتى جوبهت القرية بحملة شرسة من عمليات مصادرة الاراضي والاستيطان منذ عام ١٩٨٢ ومستمرة حتى يومنا هذا.
فالقرية اليوم تحيط بها ثلاث مغتصبات يهودية مقامة على الاراضي المهجرة عام ١٩٤٨ بيتار عيليت، تسور هداسا، وبيتار هدار، فمساحة قرية وادي فوكين التاريخية تبلغ ١٧ ألف دونم اليوم لم يتبقى منها سوى ٣ الاف دونم.
جدي حسن المناصرة جدتي جميلة المناصرة
سطَّر جدي حسن المناصرة وجدتي جميلة المناصرة قصة صمود وتحدي كبيرين في مواجهة شراسة الاستيطان ومصادرة الاراضي ، منذ ٢٠ عاما تلقى جدي أول انذارٍ من السلطات الإسرائيلية ، بمصادرة أرضه التي زرعها ما يقرب ٦٥ عاما ، لبناء جدار الضم والتوسع الاستيطاني ، ترك جدي وجدتي العيش في بيته الكبير في البلدة ، وذهبا للعيش في أرضه متخذاً من كهف عمره مئات السنين منزل له بعد منع السلطات الإسرائيلية من أي عملية بناء في الارض ، فبزراعتهم للأرض وتربيتهم للمواشي فيها، منع جرافات الاحتلال من العبث فيها ، علما ان الاراضي المجاورة لهم قد تم تجريفها.
دَأَبَ جدي في صموده حتى وفاته عام ٢٠١٨، وواظبت جدتي في صمودها الى اليوم، تقول جدتي (هذه الارض هواء أتنفسه، قلبي معلق بها، سأحافظ عليها حتى وفاتي)، نقل جدَّاي ارثهما الوطني في الصمود الى أبنائهم وأحفادهم، في الحرص والدفاع عن الارض ، وكما اعتادت جدتي أن تقول (نحن تراب هذه الارض وجذورها ، نحن منها وإليها ).