بقلم العميد: أحمد عيسى*
ماهر الأخرس ليس الأول من الفلسطينيين الذي يخوض إضراباً مفتوحا عن الطعام ضد إعتقاله إدارياً من قبل الاحتلال الإسرائيلي، إذ سبقه الكثير من الفلسطينيين في هذا المسار، لكن معركته ستبقى الأكثر أهمية عما سبقها من معارك من حيث معناها وتوقيتها ودلالاتها وتداعياتها.
فمن حيث المعنى تعتبر معركة الأخرس شكلا من اشكال المقاومة الذي يسمو على كل أشكال ومعاني المقاومة المعروفة، وفي ذلك يجادل المبدع المصري عمار على حسن في كتابه (التغيير الآمن.. مسارات المقاومة السلمية من التذمر الى الثورة)، “بأن كثيرين يتوهمون أن المقاومة مرهونة فقط بالرصاص والدم، وأن القتال وخوض المعارك هو كل درجاتها وأشكالها، أو هو مبتدؤها ومنتهاها […] ولكن إمعان النظر والتدقيق والإنصات لصوت الحق والحقيقة يبرهن على أن فعل المقاومة يدور على جبهات عدة ولا يقتصر على جبهة بعينها ولا طرف بذاته، وإذا كانت مقاومة المستعمر والمحتل والغريب الغاصب هي الأبرز والأعلى صوتاً والأكثر طرحاً، فإن هناك ثلاث جبهات تدور عليها معركة حامية للمواجهة لا تقل بأي حال من الأحوال عن التصدي للمستعمر أو الدفاع عن سيادة الوطن وإستقلاله وحريته […]، وتدور الجبهة الأولى حول مقاومة الحاكم الجائر، وتتعلق الثانية بمقاومة الأفكار المتخلفة والتقاليد البالية والأعراف المتحجرة المغلوطة، أما الثالثة فتدور حول مقاومة أو مجالدة النفس”.
وفي الشأن ذاته نشرت وسائل الإعلام الفلسطينية يوم الجمعة الموافق 20/11/2020 مقالاً قصيراً تكون من 218 كلمة للأخ مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح المحكوم لمدى الحياة أمضى منها 19 عاماً، كرسه لشرح المقاومة الفلسطينية حصراً، حيث تضمن 24 معنى للمقاومة في فلسطين تبدأ من إصلاح الأرض وزراعتها مروراً بالتصنيع والبناء والإعمار والعمل التطوعي والتعاوني والاجتماعي والفني والأدبي والتعليم وتفجير طاقات الشباب الفلسطيني ومساعدة الفقراء والمحتاجين وذوي الاحتياجات الخاصة وزيارات ذوي الشهداء واحتضانهم، وزيارات ذوي الأسرى والتضامن معهم والعمل على تحريرهم واحترام حقوق المرأة ومساندتها وتعزيز دورها، وتكريس التعددية والحريات وتكريس سيادة القانون وفصل السلطات ومقاتلة المحتل والتضحية والاستشهاد في سبيل الوطن المقدس والشعب واتباع خطى الشهداء، ومقاطعة الفاسدين وسارقي قوت الشعب ولقمة عيشه ومحاسبتهم، ورفض كل أنواع التطبيع والتنسيق مع المحتل، ورفض الانقسام الأسود والنضال من أجل المصالحة الوطنية والوحدة، ونبذ العنف الداخلي ونبذ الخلافات والضغائن والتحريض على الحقد وإثارة الفتن، والالتزام بالحوار الأخوي والديمقراطي واحترام الرأي والرأي الآخر وتكريس وحدة الشعب في الوطن والخارج والشتات، والإيمان بالمبادئ والمثل والقيم والإيمان المطلق بحقنا المقدس في بلادنا وفي أرض الآباء والأجداد على طول الوطن وعرضه ومن النهر إلى البحر، ورفض الانصياع للعدو المحتل والإصرار على مواصلة النضال والكفاح، والتمسك بالهوية الوطنية والانتماء العربي والإسلامي والإنساني، والإصرار على إيماننا بالانتماء للمثل والقيم والمبادىء الإنسانية رغم كل الذل والقهر والجوع والفقر والاضطهاد والاحتلال والتمييز العنصري، الإيمان بالنصر والحرية والعودة والاستقلال والكرامة الوطنية والسيادة.
أما من حيث التوقيت، فتكمن أهمية انتصار الأخرس، في تزامن هذا الانتصار مع لحظة بدى فيها مخطط تيئيس الشعب الفلسطيني وتغيير وعيه وإزاحته عن مسرح التاريخ قد بلغ مداه ووصل الى محطته النهائية، ولم يعد أمام الشعب الفلسطيني أمام ذلك إلا التسليم والاستسلام لقوة الاستعمار والإضطهاد الإسرائيلي، لا سيما وأن القوة الأعظم في العالم (أمريكا) قد استثنت مرة أخرى الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره وهي تُعيد بناء النظام العالمي الجديد، والأهم ان النظام العربي الرسمي قد تخلى علناً عن الفلسطيني واصطف الى جانب أمريكا وإسرائيل في رؤيتهما للنظام العالمي والإقليمي الجديد، الأمر الذي يؤكد أن الفلسطيني ليس بوارده الاستسلام ورفع الراية البيضاء رغم بقائه وحيداً في هذه المعركة اللامتكافئة في علاقات القوة.
من جهته الأخرس كرس جُل المعاني والشروحات التي قدمها البرغوثي وحسن للمقاومة في معركته التي امتدت لمئة وأربعة أيام متواصلة انتهت بانتصار إرادته على قوة المحتل، مثبتاً بذلك أن الانتصار في المعركة يحتاج إلى الإرادة والتصميم على النصر ربما أكثر بقدر حاجته إلى إمتلاك ممكنات القوة التي إن لم تقترن بالإرادة تبقى عمياء، الأمر الذي جسده الأخرس بقوله لحظة خروجه من سجنه “لقد انتصرت لوحدي على أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط”.
كما أنه حمَل انتصاره على خطاب يجسد أهم دلالات معركته بقوله “لا يمكن أن نتخلص من الاحتلال ونحن ساكتين عن الاحتلال، إذ لا يمكننا انتظار العالم ليخلصنا من الاحتلال”. وأضاف “لا يمكن أن تكون هناك مصالحة فلسطينية داخلية طالما هناك أوسلو”، الأمر الذي ستكون له يقيناً تداعياته، لا سيما وأن نماذج المعارك الفردية تتصدر مشهد المقاومة الفلسطينية في ظل انحسار النموذج الجماعي.
*المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي