بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس
إدارة ترامب تعد لمعركة استباقية لمنع المحكمة الجنائية من التحول الجاد لمحاسبة الأمريكيين و«الإسرائيليين» على جرائمهم التي ارتكبوها.
عندما بدأ الفكر الاستراتيجي الأمريكي يُنظر لتحول الولايات المتحدة إلى إمبراطورية عقب تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو، وانتهاء الحرب الباردة عام 1991، وظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية أحادية متفردة على زعامة النظام العالمي دون منازع، ظهرت فوراً تخوفات عند الكثير من المفكرين الأمريكيين الذين رأوا في دعوة تحول أمريكا إلى قوة إمبراطورية خطراً على المستقبل الأمريكي وانزلاقاً لا بد منه نحو الأفول والتداعي.
كان على رأس هؤلاء المفكرين بول كيندي في مؤلفه «صعود وسقوط الإمبراطوريات» الذي توقع الأفول النسبي ثم الأفول المطلق للولايات المتحدة بسبب انخراطها في التوسع والإنفاق العسكري المفرط الذي تحول إلى غول ينهش في الميزانيات، ويأكل القدرات الاقتصادية. وقال قولته الشهيرة: «أصبح لدينا من الحروب أكثر مما لدينا من النقود». وجاء بعده البروفيسور تشالمرز جونسون في مؤلفه «أحزان الإمبراطورية.. النزعة العسكرية، والسرية ونهاية الجمهورية»، ليحذر مما حذر منه كل من جورج واشنطن أول رئيس أمريكي، ومن بعده دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي، وهو الإنفاق على الصناعة العسكرية والجيش والتسلح، وحذر تشالمرز جونسون من أن تلك الجيوش الجبارة ونزعة التسلط العسكري والمؤسسة العسكرية والمجتمع العسكري الصناعي، والتوسع في بناء القواعد العسكرية في الخارج كمرتكزات لهذا التحول الأمريكي إلى «إمبراطورية»، من شأنها أن تقوض مرتكزات الدولة الأمريكية، وأن تقوض الديمقراطية وتقوض الاقتصاد معاً، وبهما يتحقق «الأفول الحتمي».
هذه التخوفات حفزت الكثير من المفكرين الأمريكيين إلى طرح السؤال المهم، وهو: هل يمكن أن تكون دولة ما ديمقراطية وأن تكون في ذات الوقت قوة إمبراطورية؟
هذا السؤال يلقى إجابته العملية هذه الأيام في ظل ممارسات إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي يخضع، كغيره من الرؤساء الأمريكيين، لسطوة تحكم أقطاع المجتمع العسكري – الصناعي والطبقة الأمريكية الحاكمة التي تملك إدارة الحكم والسياسة، ولكنه يتفوق عليهم بأنه عاد ليجدد العهد بالطموحات الأمريكية الإمبراطورية التي سقطت مع الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان والتوسع في شن حرب عالمية ضد الإرهاب كرد فعل للتفجيرات التي حدثت في واشنطن ونيويورك عام 2001.
ترامب جاء بمشروع «أمريكا العظمى» وشعار «أمريكا أولاً»، وبدأ يمارس التسلط والاستعلاء على كل العالم حتى على حلفائه الأوروبيين، وأخذ يعبث بحقوق الشعوب والأوطان على نحو ما فعل عندما منح كيان الاحتلال «الإسرائيلي» السيادة على القدس المحتلة والجولان السوري، ويسعى لفرض مشروع لتصفية الحقوق الفلسطينية المشروعة، لكن المفاجأة أن جزءاً من الشعب الأمريكي، وخاصة من ذوي الأصول الإفريقية ومعظم الأقليات التي ليست من أصحاب ذوي البشرة البيضاء، تبين أنهم أيضاً أسرى لهذه النزعة التسلطية والاستعلائية، على نحو ما كشفت حادثة الاغتيال البشع للمواطن الأمريكي جورج فلويد.
حادثة فلويد أكدت حرص النظام الأمريكي على منح الحصانة للأجهزة الأمنية في تعاملها مع الشعب الأمريكي، وأن الجيش الأمريكي يمكن أن يتحول إلى أداة قمع سلطوية في يد الرئيس، وجاء الموقف الأمريكي للرئيس ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو من محكمة العدل الدولية، ليؤكد الحقيقة ذاتها، وهي أن السلطة الأمريكية ضد العدالة، وأنها ترى نفسها «سلطة فوق المحاسبة»، فالتهرب الحادث داخل الولايات المتحدة من محاسبة الشرطة وتحقيق العدالة الجنائية حماية للمواطن الأمريكي وتحقيق المساواة دون أدنى درجات التمييز على نحو ما يطالب به الحراك الأمريكي الآن، يحدث الآن من جانب الإدارة الأمريكية، وأيضاً من جانب الحكومة «الإسرائيلية» التي هي صورة طبق الأصل من ذات التكوين التسلطي، ضد «المحكمة الجنائية الدولية»، لا لشيء إلا لأن المحكمة الجنائية قررت تكريس مبدأ العدالة الدولية، وأن تفتح تحقيقاً في جرائم ارتكبها جنود أمريكيون في أفغانستان، فقد أصدر الرئيس الأمريكي قراراً يقضي بفرض عقوبات اقتصادية ضد المدعي العام للمحكمة فاتو بنسودة (من جامبيا)، وجميع أعضاء الهيئة القضائية بالمحكمة، لمنعها من ملاحقة العسكريين الأمريكيين الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في أفغانستان أثناء خدمتهم العسكرية في إطار القوات الأمريكية في أفغانستان. أما مايك بومبيو وزير الخارجية، فقد أكد أنه «لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي في الوقت الذي تهدد محكمة زائفة جنودنا.. ولن نفعل ذلك».
هذه المعركة الأمريكية المتفجرة الآن ضد المحكمة الجنائية الدولية، بقدر ما تؤكد أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة التي ما زالت تعيش هواجس الإمبراطورية بما يدفعها إلى السعي إلى فرض القانون «الأمريكي» فوق القانون والعدالة الدوليين، تؤكد أيضاً أنها هي ذات الطبقة الإمبراطورية التي تمارس التمييز العنصري، وتعطي الشرطة الحصانة ضد غير البيض، لكنها في ذات الوقت تعد معركة استباقية لمنع المحكمة الجنائية من التحول الجاد لمحاسبة الأمريكيين و«الإسرائيليين» على جرائمهم التي ارتكبوها بغزو العراق وتدميره، وبالعدوانية المفرطة ضد الشعب الفلسطيني، وتصفية حقوقه الوطنية في أرضه ووطنه الفلسطيني. فالمحكمة الجنائية الدولية أقرت، مؤخراً، وأكدت «وجود أساس معقول لبدء التحقيق في الحالة الفلسطينية، وامتلاك المحكمة الولاية القضائية في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة»، وهو ما يعني أن المحكمة باتت على يقين بأنها مطالبة ببدء التحقيق في الجرائم «الإسرائيلية» التي ارتكبت ضد الشعب الفلسطيني في كل تلك المناطق، وهذا يعني توجيه ضربة قاصمة للجريمة التي يتهيأ «الإسرائيليون» لارتكابها، وهي ضم الكتل الاستيطانية وغور الأردن إلى السيادة «الإسرائيلية»، وهو الأمر الذي يستوجب من المنظورين الأمريكي و«الإسرائيلي» فتح معركة استباقية كبيرة ضد المحكمة.
بالاتفاق مع “الخليج”