بقلم: هاني المصري
اكسروا جرة وراء العام 2020 اللعين، فهو أسوأ عام مرّ على البشرية منذ وقت طويل، وهو عام غير مسبوق سياسيًا واقتصاديًا وصحيًا. وكان نصيب الفلسطينيين منه كبيرًا جدًا، فيكفي أنه شهد طرح رؤية ترامب التي هدفت إلى تصفية القضية الفلسطينية، وهي لم تسقط كليًا بسقوط دونالد ترامب، كونها بالأساس خطة إسرائيلية تبنّاها ترامب، ولا يزال دعاتها الإسرائيليون في سدة الحكم، إضافة إلى خروج تطبيع بعض البلدان العربية إلى العلن، وسط إشارات عن ولادة محرّمة تنذر بقيام حلف إسرائيلي مع بعض العرب .
كما شهد العام 2020 فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية (الثالثة خلال عام)، رغم عدم تمكنه من الحكم وحده، إلا أنّه تمكن من تحطيم منافسه حزب “أزرق أبيض”، ثم شهد حزبه الليكود انشقاق جدعون ساعر الأكثر يمينية منه، الذي سينافسه في الانتخابات الإسرائيلية في آذار القادم.
وشهد هذا العام موقف إجماع فلسطيني ضد مؤامرة ترامب نتنياهو، الأمر الذي شقّ له الطريق قرار التحلل من الاتفاقات، ومن ثم حوارات المصالحة، واجتماع الأمناء العامين، وتفاهمات إسطنبول التي فتحت نافذة لبعض الأمل، سرعان ما تبخر بعد إعادة العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، بما في ذلك التنسيق الأمني، من دون مقابل سوى تحويل أموال المقاصة التي كان متاحًا الحصول عليها سابقًا من دون ربط ذلك بالتنسيق الأمني.
لا يمكن تفسير هذا التراجع إلا على خلفية الرهان على فوز جو بايدن واحتمالات سعيه لإحياء العملية السياسية وحل الدولتين، رغم وجود ما يكفي من الدلائل أن أقصى ما يمكن أن يذهب إليه بايدن العودة إلى استئناف المفاوضات بهدف إدارة الصراع وليس حله، من أجل احتوائه ومنع تدهوره، وهذا يعطي للحكومة الإسرائيلية القادمة العنان لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية الاستيطانية التوسعية، سواء أكانت برئاسة نتنياهو أو ساعر أو نفتالي بينيت، فهي من المحسوم أنها ستكون حكومة يمينية عنصرية، لدرجة لن تحتاج إلى أصوات القائمة العربية المشتركة المعرضة لخسارة 4 مقاعد، وللتفكك إذا لم يتم تدارك الخلاف الناشب داخلها على خلفية الموازنة، والمواءمة المطلوبة ما بين المواطنة والهوية الوطنية، والحذر من اعتبار الاندماج كأفراد في إسرائيل هو الحل.
على الفلسطينيين التصرف كأقلية قومية لتنال حقوقها المدنية، خلافًا لما يروّج البعض بأن الأسرلة طريق تحقيق الحقوق، فالمصلحة الفلسطينية لا تتحقق بالحصول على الملاليم والفتات لصالح أفراد، وإنما بالكفاح المتصاعد ضد المشروع الاستعماري العنصري الذي لن يقبل طواعية وبسهولة منح الحقوق الفردية والقومية للأغيار.
وفي هذا العام جرى النكوص مرة أخرى عن محاولات التوصل إلى الوحدة، ومن ضمنها إجراء الانتخابات المتتالية أو المتوازنة انتظارًا ورهانًا على المتغيرات والغير، وخصوصًا لمعرفة رأي إدارة بايدن، وهل ستدعم القيادة الفلسطينية القائمة أم ستسعى لتعديلها، وهل ستعطي الضوء الأخضر للوحدة ومشاركة “حماس” في السلطة والمنظمة، وما الثمن المطلوب من “حماس” في هذه الحالة، وهل تقدر أو تريد “حماس” دفعه، وهل تضغط الإدارة الأميركية الجديدة من أجل إجراء الانتخابات الفلسطينية، حتى من دون مشاركة “حماس”؛ لمنح الشرعية للسلطة وتأهيلها للتفاوض ضمن معادلة مفاوضات من أجل المفاوضات من دون أفق، ولا تتسع إذا تم استئنافها سوى للتفاوض لجعل سلطة الحكم الذاتي الحالي حلًا نهائيًا يسمى دولة بموافقة الفلسطينيين، بحيث يضاف إليها نسبة إضافية من الأراضي المصنفة (ج)؟
وشهد هذا العام جائحة فيروس كورونا، التي كشفت كم أن العالم الذي نعيش فيه أشبه بالغابة بلا أسس ولا قيم وقوانين ومرجعيات، إذ أصبح، خصوصًا في ظل انتشار الشعبوية في العالم، بلا قيادة ولا نظام عالمي، وهذا مكّن فيروس كورونا من الفتك بالعالم الذي لم يتصرف بشكل مشترك، وإنما كل دولة تبحث عن نجاتها، مع أن هذا ليس ممكنًا في ظل عالم متداخل ولا يستطيع أن يستغني عن بعضه.
لا يزال فيروس كورونا خطرًا جديًا في العالم وفلسطين، لدرجة أننا أصبحنا بعد ما اعتبرنا قصة نجاح في البداية في آخر السلم العالمي، لا سيما في ظل عدم التوازن المطلوب بين الوقاية والإجراءات الصحية والحفاظ على دوران الحياة الاقتصادية والعدالة بتوزيع الموارد المتاحة، حيث لاحظنا الانتقال من الإغلاق التام المستعجل إلى الانفتاح التام، ثم التخبط بينهما من دون اتخاذ الإجراءات اليومية التي كانت إعلامية وانتقائية في العديد من الأحيان، وتركت أماكن كثيرة، وخصوصًا في القرى، وكأنها غير معنية بإجراءات الوقاية، فضلًا عن إلقاء المسؤولية على المواطن بدلًا من تحمل الحكم والحكومة المسؤولية.
وشهد العام الحالي الكثير من الأحداث التي لا يمكن المرور عليها كلها، ونذكر منها رحيل صائب عريقات منذ أكثر من أربعين يومًا، واستقالة حنان عشراوي، ولا أحد يعرف حتى الآن متى سيعقد المجلس المركزي اجتماعًا لسد الشواغر، رغم أنه لم يعقد اجتماعًا منذ عامين على آخر اجتماع له، مع أنه مُنح في دورة المجلس الوطني الأخيرة صلاحيات المجلس الوطني كاملة في خطوة اعتبرت مخالفة للنظام الأساسي للمنظمة وللمنطق، الذي يفيد بأن لا أحد ولا مؤسسة تمنح تفويضًا كاملًا غير محدد بقضايا غير محددة ولا بوقت، وبُرر الأمر حينها حتى يكون المجلس المركزي قادرًا على العمل بانتظام وفعالية، الأمر الذي لم يحصل أبدًا.
إن الحاجة ملحة الآن أكثر من ذي قبل للشروع في حوار وطني شامل للتوصل إلى رؤية شاملة، وإستراتيجية موحدة، لمواجهة التحديات والمخاطر، وتوظيف الفرص المتاحة، وإنجاز وحدة وطنية على هذا الأساس قبل فوات الأوان والندم حيث لا ينفع الندم.
في موازاة ذلك، يمكن أن تنتهي حركة حماس من انتخاباتها الداخلية – المقرر أن تنتهي في نيسان القادم – باختيار قيادة جديدة، واعتماد سياسة تُمكّن “حماس” من الاستعداد لدفع ثمن الوحدة عن طريق تعميق طابعها الوطني، والكف عن الرهان على المتغيّرات العربية والإقليمية، وانتظار صعود الإسلام السياسي، وتحديدًا الإخوان المسلمين مجددًا، وعدم جعل السيطرة الانفرادية على قطاع غزة الأولوية إلى حين النهوض، لأن هذه السياسة جعلت ثمن الحفاظ على غزة باهظًا، ويُمكّن من نجاح سياسة استمرار وتعميق الانقسام والاحتواء والترويض التدريجي.
على “حماس” أن تحسم موقفها بشكل واضح، وتعلن استعدادها للتخلي عن سيطرتها على القطاع، مقابل أن تكون شريكة كاملة في السلطة والمنظمة.
وفي موازاة الحوار وانتهاء انتخابات “حماس”، يمكن تفعيل منظمة التحرير كخطوة أولى على طريق إعادة بناء مؤسساتها من خلال عقد المجلس المركزي وفق أجندة أكبر من الاكتفاء بسد الشواغر، وإنما تشمل إجراء تغيير ملموس على التوجهات والسياسات والأشخاص وطريقة اتخاذ القرار، وخاصة فيما يخص إعادة تشكيل اللجنة التنفيذية بحيث تصبح قادرة على العمل.
سيكون عقد المجلس المركزي ونتائجه اختبارًا مهمًا جدًا، هذا إذا عقد بسرعة. أما إذا عقد وأعاد إنتاج القديم واختيار أشخاص من أهل الثقة والولاء من دون تغيير مستحق فعلى المنظمة السلام، وعلى الأغلب أننا سنكون أمام الفرصة الأخيرة.
هناك من يقول إن العام 2021 سيكون أفضل من سلفه 2020، أو أقل سوءًا منه، على أساس أن بايدن مختلف عن ترامب، ولكن هذا ليس كافيًا ولا حتميًا، بل يمكن أن يكون العام القادم مثل سابقه أو أسوأ منه، وهذا يتوقف على كيفية تصرّف الفلسطينيين بشكل عام، وقيادتهم بشكل خاص، فإذا استمرت في إستراتيجية البقاء والانتظار وردة الفعل ستصل إلى ما لا يحمد عقباه، إذ سيستمر الانقسام ويتعمّق وينتشر إلى مناطق جديدة، وسيتوسع الاستعمار الاستيطاني والضم الزاحف والفعلي، إضافة إلى استمرار تراجع وتهميش القضية الفلسطينية، وحصار غزة، والتمييز العنصري ضد شعبنا في الداخل، ومفاقمة معاناة شعبنا في أماكن اللجوء والشتات، وخصوصًا مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان. أما إذا بدأت القيادة من تلقاء نفسها أو استجابة لضغوط سياسية وجماهيرية بتغيير ملموس في النهج والأداء، حتى لو لم يكن جذريًا، استجابة للحاجة الملحة والمتزايدة للتغيير ولفشل السياسات المعتمدة، فستسير على طريق الخلاص الوطني.
هناك فرصة لتغيير المسار، خصوصًا إذا تم إحياء المشروع الوطني وتبني حل الرزمة الشاملة، التي تُطبق بالتزامن والتوازي، وتتضمن الاتفاق على البرنامج الوطني، وأسس الشراكة الحقيقية والديمقراطية التوافقية في السلطة والمنظمة، التي يجب إعادة بناء مؤسساتها من خلال تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني توحيدي يعيد للمنظمة ألقها، لتصبح قولًا وفعلًا الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
إن من أهم الخطوات على طريق إنهاء الانقسام، بعد الاتفاق على البرنامج الوطني وأسس الشراكة، تشكيل حكومة وحدة، أو وفاق وطني، كمدخل لإجراء الانتخابات، تتولى توحيد مؤسسات السلطة ضمن تصوّر جديد يهدف إلى تغيير طبيعتها ودورها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها وعلاقتها بالمنظمة، وعلى أن تقوم بإزالة آثار الانقسام، وتوفير أجواء الثقة، وضمان الحقوق والحريات.
أختم هذا المقال بالقول إن القوى والعناصر والمؤسسات التي نادت وتدرك أهمية التغيير وضرورة الوحدة مسؤولة مسؤولية مضاعفة، ومطالبة بالعمل والضغط لإحداث التغيير المطلوب، والمبادرة إلى تقديم النموذج وتحقيق خطوات وحدوية من تحت لفوق، وفي كل المجالات، وليس في المجال السياسي فقط، وعدم انتظار حدوث التغيير بمعجزة من السماء، أو الاكتفاء بالمطالبة بحدوثه والتعلّق بأذيال الآخرين حتى ذلك الحين. فالمبادرة مطلوبة، والعزيمة ضرورية، والمثابرة تحقق الأمل.