ضمير الدستور الأمريكي في مأزق!

11 أغسطس 2020آخر تحديث :
ضمير الدستور الأمريكي في مأزق!
ضمير الدستور الأمريكي في مأزق!

بقلم: الدكتور أحمد القديدي

مع قدوم الرئيس ترامب للبيت الأبيض منذ أربع سنوات وتعاقب الأزمات الدولية كانت بنود الدستور الأمريكي المؤسس للولايات المتحدة هي مثار الجدل والتفاسير الأكثر في أمريكا وفي العالم لأن كل ما يتعلق بأمريكا يصبح بالضرورة شأنا دوليا للأسباب التي تعرفونها.

ولاحظنا أن الرئيس ترامب نفسه شارك في هذا الجدل خاصة ضد السيدة (بيلوسي) رئيسة الكونجرس التي كأنما أقسمت على عزله من الحكم قبل تشرين الثاني 2020! ولعلمكم فإن الدستور الأمريكي هو النص الذي تضمن بنوده تلك التعادلية المطلوبة لإدارة وتواصل الحياة السياسية والإدارية والقضائية في الولايات المتحدة الأمريكية وهو المرجع الأساسي لكل إشكالية تطرأ هنا وهناك… وما أكثرها على مر قرنين ونصف من عمر المؤسسات الأمريكية فالدستور الأمريكي هو الذي أعطى على سبيل المثال صلاحيات استثنائية للرئيس روزفلت المنتخب للمرة الثالثة بصورة استثنائية يوم 7 تشرين الثاني 1940 للدخول في معمعة الحرب العالمية الثانية تم تدريجيا حسم الحرب لصالح الحلفاء باستعمال القنبلة النووية لأول ــ وربما آخر مرة في تاريخ الإنسانية على مدينتي: هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين.

ثم إن الدستور الأمريكي هو الذي قدم لأمريكا رجل الحرب ــ ثم الحرب الباردة ــ الجنرال دوايت أيزنهاور الذي استقال في مارس 1952 من منصبه كقائد عام للقوات الأطلسية لخوض الانتخابات وجاء برجلين معه كان لهما تأثير حاسم على الحياة السياسية الأمريكية لغاية السبعينيات وهما نائب الرئيس (ريتشارد نيكسون) ووزير الخارجية (جون فوستر دالاس) الذي كان صاحب ما يسمى في علم السياسة (عقيدة فوستر دالاس) وهي تلك المسماة Containment

أي احتواء المد الشيوعي بدعم زعماء عسكريين في العالم الثالث يوثقون أيدي شعوبهم ويكممون أفواههم.

والدستور الأمريكي هو الذي سمح لنفس الرئيس أيزنهاور بأخذ موقف من العدوان الثلاثي على مصر 29ــ 30 أكتوبر 1956 حين اتفقت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على مهاجمة مصر انتقاما من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على تأميمه قناة السويس حيث إن الدستور الأمريكي يحدد السياسة الخارجية الأمريكية في خطوطها الرئيسة عندما يتعلق بموقف إزاء حلفاء مثل فرنسا وبريطانيا اللتين تصرفتا دون استشارة واشنطن وكاد العدوان الثلاثي أن يؤدي إلى صدام بين الاتحاد السوفييتي وحلف شمال الأطلسي.

والدستور الأمريكي هو نفسه الذي تعامل مع أزمة كوبا حين هددت واشنطن في حصارها لكوبا (كاسترو) بإشعال فتيل حرب نووية حيث أوضح الدستور حدود صلاحيات الرئيس (جون كيندي) ومدى نفاذ الرأي الذي ينتهي إليه قادة الأركان وكذلك مدى فاعلية القرار الذي يتخذه أعضاء الكونجرس بالأغلبية في وضع متأزم منذر بالحرب كذلك الذي عاشته أمريكا في بداية حصار كوبا وعندما حلت معضلة (ووترجيت) يوم 17 يونيه 1973 بدأت عجلة الدستور الأمريكي تدور لتنتهي بسحق الرئيس نيكسون أمام لجنة تحقيق عينها الكونجرس وأيضا عندما اندلعت فضيحة (مونيكا جيت) وترنح الرئيس كلينتون ثم تربع على عرش البيت الأبيض ببعض الخدوش والكدمات حيث كان (ميكانزم) الدستور الأمريكي مزيتا جاهزا لمواجهة الموقف. ولكن.. مع تصدي القانون الدستوري الأمريكي لكل هذه الأزمات فإنه ظل عاجزا أمام تعفن حرب فيتنام وعاجزا أمام عجز أمريكا في الشرق الأوسط وعاجزا أمام ضيق الأفق بعد حرب الخليج وعاجزا منذ اندلاع ثورة تحرير فلسطين التي بدأت منذ 28 سبتمبر 2000 (الانتفاضة الأولى) وفتح الشعب الأمريكي عيونه كل يوم على الأطفال الشهداء وعلى سقوط الخرافة الإسرائيلية في مستنقع العنف الصهيوني الأعمى ظلت الآلية الدستورية الأمريكية معطلة.

ونصل إلى أزمة الدستور الراهنة حيث وضعت الأحداث وملابساتها بنود الدستور في موقف صعب بل في محنة تحدث لأول مرة في تاريخ الانتخابات الأمريكية ولهذه المحنة وجهان: الأول تساوي نصاب المرشحين: (ترامب و جو بايدن) مع تقدم طفيف لبايدن ثم لترامب بالتداول حسب وكالات استطلاعات الرأي بصورة لم تسجلها الانتخابات الأمريكية خلال بلوغ خمسة وأربعين رئيسا عتبة المكتب البيضاوي على الإطلاق: بضعة مئات آلاف من الأصوات تتحرك في اتجاهين متعاكسين تفصل فيما يبدو بين الرجلين مع ترافق هذا التساوي مع تدخل اللوبيات المعروفة التقليدية على تغيير قواعد اللعبة فاللوبي اليهودي كان حاضرا منذ إعلان صفقة القرن و قبلها إعلان القدس عاصمة للدولة العبرية لترجيح كفة ولي نعمة اليمين الصهيوني ولوبي شركات النفط كان وراء ترامب ولوبي الصناعة الحربية هو الذي ربح منذ 2016 لكن الخلاصة هي أن القانون الدستوري الأمريكي يحتاج إلى إعادة نظر على ضوء المتغيرات الأمريكية والعالمية حتى لا تتكرر هذه الأزمات في المستقبل وتصبح مهددة للتوازنات التي صنعت الديمقراطية الأمريكية والقوة الأمريكية بل وكرست انفرادها بالتفوق الاقتصادي والعسكري والإستراتيجي قبل ظهور المنافس الصيني المستقوي بالاقتصاد و الصناعة و التجارة في عالم مهدد بالتبعية والقهر والذوبان فالقانون الدستوري الأمريكي إذا عجز عن حل أزمة (كورونا) سيصبح هو الآخر أداة في أيد خفية أيدي الماسكين الحقيقيين بالسلطة الذين لا يجلسون لا على كراسي في الكونجرس ولا في البيت الأبيض بل يحتلون مكاتب الشركات العملاقة العابرة للقارات في ناطحات سحاب منهاتن.. وقد سماها المفكر الأمريكي ــ ناحوم شومسكي ــ (حكومة الأشباح الجديدة)! و سماها المفكر الأمريكي ( ألفين توفلر) حكومة الظل!

عن “الشرق” القطرية