بقلم : تيسير خالد *
وأخيرا اجتمع الكونغرس الأميركي وحسم الامر وقرر ان جو بايدن هو الرئيس المنتخب ، وقبله اجتمع المجمع الانتخابي في الولايات المتحدة الاميركية للبت في نتائج الانتخابات الرئاسية الاميركية ، التي جرت في الثالث من شهر نوفمبر / تشرين الثاني الماضي . وأعلن فوز جو بايدن في سباق الرئاسة الى البيت الأبيض . غير ان الامر لم يقف عند هذا الحد ، فردا على المجمع الانتخابي كان اول عمل قام به الرئيس إعلان استقالة وزير العدل ، الذي خذله ، وكرر الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب انه لا يعترف بهذه النتيجة وواصل الادعاء بأنه هو الفائز الحقيقي في تلك الانتخابات وبأن تلك الانتخابات قد زورت وسرقت منه وواصل مع مؤيديه الاستقواء بنحو 75 مليون صوت وهو رقم لم يحصل عليه وفق ادعائه أي رئيس أميركي في أية انتخابات رئاسية سابقة ، الأمر الذي حاول من خلاله أن يضفي على موقفه مصداقية ومظلومية وحقوقا تسمح له بمواصلة معركته السياسية ضد رئيس غير شرعي وفق ادعائه ، حتى كانت ليلة الكريستال الأميركية بنتائجها العكسية التي ارتدت سلبا على رئيس متهور ركب موجة عالية من الشعبوية الأقرب الى الفاشية .
لا شك اننا امام ظاهرة تستدعي التوقف ، وهي في تقديري ظاهرة فاشية . صعود مظاهر من الفاشية في الولايات المتحدة وفي اسرائيل وحتى في أوروبا وغيرها من البلدان كبرازيل بولسوناريو مثلا ليس بالأمر غير القابل للتفسير ، ولكن هل يمكن ان تأتي الفاشية من خلال صناديق الاقتراع أم أنها زرع شيطاني تأتي محمولة على موجة عالية من الديماغوجيا والتضليل وعمليات تشويه للوعي في ظل ظروف تفقد فيها الشعوب توازن قواها المجتمعية تحت ضغط أزمات تؤثر على حياتها ومستوى معيشتها وتدفعها للبحث عن حلول زائفة لمشكلاتها .
بالعودة إلى التاريخ الى الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين الاولى والثانية ، فقد جاء الحزب النازي الى الحكم من خلال صناديق الاقتراع في ظل أزمة اقتصادية كانت تعصف بالعالم في سنوات الركود الكبير نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات من القرن الماضي وهي ازمة فقدت فيها شعوب كثيرة توازنها الاجتماعي بحيث انحازت الطبقات والفئات الاجتماعية الفقيرة والمضطهدة والمهمشة الى اليمين في عملية غاب عنها دور القوى اليسارية والديمقراطية وحتى الليبرالية . فقد نال ذلك الحزب في انتخابات عام 1933 – 17,277,180 صوتاً من أصل 39,343,000 صوتاً ، وحاز على 288 مقعداً من أصل 647 مقعداً ، ما شجع ادولف هتلر لتغيير الوجهة والدعوة الى إقامة نظام الحزب الواحد ، في استفتاء نالت النازية بموجبه 39,655,224 صوتاً ، في مقابل معارضة أقل من عُشر الناخبين ، أي 3,398,249 صوتاً .
الفاشية يمكن إذن أن تأتي من خلال صناديق الاقتراع ، ويمكنها أن تستخدم الديمقراطية كحصان طروادة للوصول الى الحكم ، والشواهد على ذلك كثيرة ، ليست شواهد الماضي النازي في المانيا او الفاشي في ايطاليا او الماضي الكتائبي في اسبانيا ، بل شواهد الحاضر كذلك ، كدونالد ترامب ترامب في الولايات المتحدة ونتنياهو في اسرائيل وبولسوناريو في البرازيل ويمكن ان نضم لهم قائمة تطول من أمثال ماري لوبان في فرنسا ونفتالي بينيت وساعر في اسرائيل ، فالتاريخ كما قال ذات مرة كارل ماركس يمكن ان يعيد نفسه مرتين ، الاولى على شكل مأساة والثانية على شكل مهزلة يعيد فيها التاريخ نفسه ويستنسخ على نحو مأساوي نماذج في الحكم تدعي المقدرة على تقديم حلول ، هي في الحقيقة وهمية ، للأزمات التي تعصف أحيانا بالمجتمعات المتطورة منها والمتخلفة ، حلولا شعبوية مؤيدة من الجماهير في مواجهة الكساد وضعف الاقتصاد وفي البحث عن حلول من خلال السيطرة على أسواق وثروات خارج نطاق المجال الوطني او القومي في حالة الدول الاستعمارية او المتطورة .
والفاشية في مسار صعودها تستنفر طاقاتها الشريرة والعدائية في عمليات هياج وخداع للجماهير لتزييف وعيها ، وادواتها الى ذلك متعددة ، غير أن أهم تلك الأوات هو معاداة اليسار والحركة العمالية ومعاداة الديمقراطية وحتى الافكار الليبرالية . ذلك لا يقلل طبعا من دور مكوناتها العنصرية والعرقية والاستعمارية الاستعلائية . وعلينا ان نتذكر هنا بأن النزعات العرقية والعنصرية والاستعمارية الاستعلائية لم تمت مع نهاية الرايخ الثالث وفاشية موسوليني أو في محاكمات نورنبرغ الدولية التي قام بها الحلفاء ضد زعماء الوحش النازي ، لأن المحكمة الدولية حاكمت سلوك الأفراد وجرائمهم الخاصة ولم تحاكم الفكر الذي أدى إلى هذه السلوكيات ، ربما أن القضاة كانوا سيضطرون لمحاكمة المنتصرين أيضاً لو وضعوا الفكر الفاشي على منصة الاتهام.
إذن الفاشية لا تنشأ من العدم فلها حواضنها في المجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة ، وهي تقدم عند نقطة تحول معنية حضورا طاغيا لشخصية الزعيم ، الذي يصادر الحزب ويصادر الدولة ، تماما كما كان الحال في المانيا النازية وايطاليا الفاشية ، فالحزب يصبح حزب الرئيس والدولة تختصر في حكم وحكومة وأجهزة تدور في فلك الرئيس ، بما في ذلك البرلمان . وفي حالة الولايات المتحدة الاميركية يجب الانتباه أن الأمريكيين لم يصوتوا بكثافة فقط لدونالد ترامب بل دفعوا الى مجلس النواب صفا لا بأس به من المحافظين اليمينيين والعنصريين الموالين للرئيس قبل ان يكن ولاؤهم للحزب الجمهوري .
وقد جاءت الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الاميركية وما رافقها من حملات وتبعها من ردود أفعال لتلقي الضوء على خطر يهدد الحياة السياسية ليس الولايات المتحدة الاميركية وحدها ، بل وعلى مستوى العالم بأسره خاصة ونحن نقف امام اكبر قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية في العالم . دونالد ترامب لم يكن يتصرف في حدود سيادة وطنية فمملكته كانت تتجاوز ذلك في اتجاه العالم بأسره وكانت تصرفاته تفضح سياساته ومعتقداته الفكرية أو الايدولوجية ، وقد ظهر ذلك واضحا من عطاياه وهداياه للعديد من الدول ، لإسرائيل في القدس وفي الضفة الغربية وفي الجولان ، وعطايا وهدايا أخرى في مناطق أخرى من العالم متحديا في ذلك القانون الدولي والشرعية الدولية ، وتصرف بسخاء مع دولة الاحتلال الاسرائيلي وخصها بمجال حيوي تماما كما كان الحال مع المجال الحيوي لدولة الرايخ الثالث . وفي مجاله الوطني الخاص كانت أجندة ترامب وتصريحاته وأوامره التنفيذية تتسع لحيز واسع من العنصرية والعداء للشعوب وإهانة النساء والملونين والأجانب ، ولم يكن يتردد في قيادة حملة تخويف اجتماعية وسياسية واقتصادية ، وهاجم الشركات الأمريكية التي تقيم مصانعها في الخارج ، وسعى لوضع السلطة في يد نخبة جديدة من الموالين في مؤسسة الحكم وعلى رأس حزب يميني متطرف
وتقاطعت النزعات الفاشية عند دونالد ترامب مع الفاشية في الفكر الصهيوني والممارسة الصهيونية والتي تتجلى في أقبح صورها في قانون يهودية الدولة ، وقانون الولاء الثقافي وغيرهما من القوانين ، حيث يسعى قادة الدولة من خلال قانون الولاء في الثقافة إلى حرمان الكيانات والهيئات المحلية من حقوقها في سياق سعي اليمين الصهيوني لإحكام قبضته على كل شيء من القضاء إلى الثقافة والفن مرورًا بالانتماء الفكري والديني . ومن المعروف بأن المهام الأولى للفكر الفاشي هي السعي لتدمير ثقافة التعدد والثقافة اليسارية والديمقراطية وحتى الليبرالية بشكل عام وثقافة الآخر بشكل خاص لتسهل عليه مهمة فرض توجهاته على الآخر المختلف ، لأن الفكر الفاشي لايمتلك مقومات الصمود أمام الثقافات الأخرى، بل أنه يخشى من كل ثقافة تمت بصلة للحضارة الإنسانية فيسعى لتحطيمها . ويخشى الفاشيون المثقفين لأنهم أداة الثقافة المحررة للإنسان والداعية لرفض كل أشكال التمييز والعنصرية والتعالي على المجتمعات الأخرى
هل نحن في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الاميركية امام فصل ختام مع مشروع فاشي كان يمكن ان يترك تداعياته المرعبة لسنوات مديدة لو نجح دونالد ترامب في تلك الانتخابات . لا يبدو الأمر كذلك ولا يبدو ان ترامب سوف يميل الى الانعزال او العزلة والعودة الى حياة رجل العقارات . سلوكه على امتداد الاسابيع الماضية يفضح ذلك ، فدونالد ترامب لا يحمل فكرا فاشيا فحسب بل ومشروعا فاشيا للحكم مركزه في الولايات المتحدة الاميركية وامتداداته في اكثر من قارة وخاصة في أميركا اللاتينية وفي القارة الاوروبية . ذلك لا يعني اننا امام مشروع فاشية أممية ، فليس للفاشية مصالح مادية واحدة عابرة للقارات او حتى مشتركة ، ولا شيء يتلون كالحرباء كما تتلون الفاشية . غير أن هزيمة دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الاميركية يمكن ان تدخل الفاشية في حالة كمون متحفز ، أما عودتها من جديد كمشروع للحكم فيعتمد الى حد كبير على سياسة وسلوك الادارة الاميركية الجديدة ومدى اقترابها او ابتعادها عن الفضاء العام لثقافة تعالج الاحتقانات الداخلية التي خلفتها سنوات حكم ترامب وتأخذ بالمشترك في حياة الدول والشعوب في المناخ والتجارة العالمية ومجالات الصحة والطاقة وسياسة تبتعد فيها عن احتقار القانون الدولي والشرعية والعدالة الدولية .
*** عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
*** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين