بقلم: العميد أحمد عيسى*
يستعد الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة لممارسة حقه الدستوري في انتخاب نوابه في المجلس التشريعي في الثاني والعشرين من شهر آيار القادم وفقاً للمرسوم الرئاسي الصادر بتاريخ 15/1/2021. ويأتي الاستعداد هذه المرة محمولاً على أمل أن تؤسس هذه الجولة من الانتخابات لإنهاء الانقسام ومعالجة أسبابه وضمان عدم تكراره، لا سيما بعد فشل كل المحاولات السابقة.
وكان الشعب قد حُرم من ممارسة هذا الحق طيلة فترة الانقسام المتواصلة منذ العام 2007، وعانى خلالها بما فيه الكفاية من ويلات ومصائب نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية لا زالت حاضرة وفاعلة في حياته، وبدى بعضها غير قابل للعلاج لما أصابها من تعفن.
وفي سعيهم لإظهار عزمهم على استئصال أسباب الانقسام وضمان عدم اللجوء مرة أخرى للسلاح كلغة للحوار توافق كبرى المكونات السياسية الفلسطينية (فتح وحماس) على بدء الحوار الوطني لتعبيد الطريق أمام نواب الشعب الجدد لتحقيق هذه الغاية تحت قبة البرلمان أو البرلمانين المجلس التشريعي والمجلس الوطني.
وحسناً فعلت حركتا فتح وحماس بإحالة معالجة الخلافات للبرلمان، إذ أن البرلمانات لا سيما، في النظم البرلمانية الديمقراطية هو المكان الذي يجب أن تعالج فيه الخلافات، وتُسن فيه التشريعات التي يحتكم اليها الأطراف المختلفة في معالجة خلافاتهم، فضلاً عن أنها السلطة المخولة قانوناً بالرقابة على عمل السلطة التنفيذية، الأمر الذي يتطلب من القوى التي ستبدأ اليوم حوارها في القاهرة، التركيز في حوارها على الأسباب المنشئة للانقسام أكثر من تركيزها على الأسباب الكاشفة له، وفي نفس الوقت اتخاذ ما يكفي من القرارات التي تثبت للشعب أن الانقسام ولى إلى غير رجعة.
وحول الأسباب المنشئة للانقسام في الساحة الفلسطينية فتجادل هذه المقالة أنها لم تكن أبداً أسبابا سياسية تدور حول التسوية أو المقاومة، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تأخرت حماس ثلاثين عاماً عن مشاركة باقي مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال؟!
ولم تكن كذلك لأسباب أخلاقية تقوم على مُسلمة أن حركة حماس أكثر حصانة من الآخرين في الاستجابة لمغريات فساد وإفساد السلطة، الأمر الذي ثبت نقيضه خلال فترة حكم حماس لغزة!
ومقابل ذلك ترى هذه المقالة أن الأسباب المنشئة للانقسام في الحالة الفلسطينية هي النسخة الفلسطينية لعلاقة النظام السياسي العربي مع قوى الإسلام السياسي خاصة كبرى هذه القوى الإخوان المسلمين، حيث يرى المتخصصون في علم الاجتماع السياسي الذين تناولوا هذه العلاقة بالبحث والدراسة أن هذه العلاقة لا تقوم على أسس تضمن إنتاج نظام سياسي مستقر لأسباب تعود لرؤية قوى الإسلام السياسي للنظم السياسية العربية القائمة، وتعود من جهة أخرى لعدم تحول النظام السياسي العربي لنظام ديمقراطي حقيقي.
أما حول رؤية قوى الإسلام السياسي للنظام السياسي في الدول التي تتواجد فيها هذه القوى فقد بنيت هذه الرؤية على أساس أن هذه القوى تجسد الحق الذي يجب أن تبني حوله النظم السياسية، وما دون ذلك فهو خروج على النص يتوجب محاربته، وعلى ضوء ذلك ربت هذه القوى بما في ذلك حركة حماس أجيالاً من عناصرها على اقتحام النظام السياسي لا على أساس المشاركة فيه كأحد مكوناته.
وحول النظم السياسية العربية بما في ذلك النظام السياسي الفلسطيني الذي نشأ مع نشأة السلطة الفلسطينية العام 1993 فلم تكن أبداً نظم ديمقراطية بالمعني الحقيقي، إذ اكتفت بتطبيق الانتخابات كأحد أوجه الديمقراطية ولم تحدث فصلا حقيقيا بين السلطات (التنفيذية والقضائية والتشريعية).
وتاسيساً على ذلك أستُبعد من التجربة العربية نموذج دمج قوى الإسلام السياسي في النظم السياسية القائمة وانحصرت علاقة الطرفين في نماذج مثل الاستئصال تارة كما حدث في الجزائر وسوريا في ثمانينات القرن الماضي، والاستيعاب والتوظيف والاستبعاد تارة أخرى كما جرى في كل من مصر والأرن والسعودية وغيرهما من الدول العربية ما قبل اندلاع ما يعرف بالربيع العربي.
وعلى ذلك يرى المتخصصون في دراسة مكانة قوى الإسلام السياسي في النظام السياسي العربي أن هذه العلاقة إن لم تقم على الدمج لن يكون هناك نظام سياسي مستقر قادر على تلبية احتياجات وطموحات الشعب، ويضيف هؤلاء المتخصصين أن الدمج لا يتحقق إلا إذا توفر شرطان، يدور الأول حول إقرار قوى الإسلام السياسي أن الدستور هو مرجعيتها في العمل السياسي وليس ميثاقها الخاص، ويتعلق الثاني بتحول النظام السياسي إلى نظام ديمقراطي حقيقي وفقاً لنص الدستور.
من جهتها حركة حماس اقتربت من الشرط الأول العام 2017 أي بعد مرور ثلاثة عقود على انطلاقتها العام 1987 من خلال إعلان وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي يفترض أن تكون وثيقة ناسخة لميثاق العام 1988، إذ اقرت في المادة رقم (1) من الوثيقة الجديدة أنها حركة مقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، ناسخة بذلك تقديم ذاتها على أنها حركة مقاومة إسلامية فلسطينية وفقا لنص المادتين الأولى والسادسة من ميثاق العام 1988، وأن الوطنية متضمنة في العقيدة الإسلامية وفقاً لنص المادة الثانية عشر من الميثاق.
كما أن الوثيقة الجديدة أعلنت في المادة رقم (28) عن إيمانها بأنها مكون من مكونات الشعب وتقيم علاقاتها معها على قاعدة التعددية والشراكة وقبول الآخر واعتماد الحوار، الأمر الذي يعبر عن تغير جوهري في نظرة حماس للآخر الفلسطيني مقارنة بميثاق العام 1988 الذي نص في أكثر من مكان أن الخلاف والاختلاف مع حماس هو اختلاف مع النص كونها قدر الله على الأرض.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من التغييرات الجذرية التي أدخلتها الوثيقة الجديدة على هوية حركة حماس وتعريفها لذاتها ونظرتها للآخر الفلسطيني، إلا أن الحركة لا زالت تربي عناصرها على هيئة رجل واحد وليس على قلب رجل واحد، ما لا يبعث على الطمأنينة أن ثقافة استسهال قتل الآخر قد ولت للأبد، الأمر الذي يفرض على الأطراف المتحاورة وضعه على رأس أجندة محاور الحوار، إلى جانب شروط إستكمال بناء النظام النيابي الديمقراطي وفقاُ لنص المادة رقم (2) من القانون الأساسي الفلسطيني.
أما حول طمأنة الشعب الفلسطيني أن مكوناته السياسية التي تلتقي اليوم في عاصمة العرب القاهرة لن تعود مرة أخرى للاقتتال والانقسام فيتوجب عليها إعلان أن ما جرى في قطاع غزة في صيف العام 2007 كان جريمة موصوفة تستوجب العقاب، الأمر الذي يستدعي منها التوافق على ما يلي:
• إعادة الحقوق التي سُلبت والكرامات التي هُدرت بسبب الانقسام والاقتتال إلى أهلها.
• رفع الغطاء التنظيمي عن كل من تلطخت يداه قولاُ أو فعلاً بدماء ضحايا الانقسام.
• سن قانون يجرم بأثر رجعي الانقسام والاقتتال، ويحدد عقوبات على كل من ساهم في الاقتتال أو حرض عليه، وإنشاء محكمة خاصة تنظر القضايا ذات العلاقة.
• تشكيل لجنة خاصة من النيابة العامة لاستقبال شكاوى ضحايا الاقتتال والتحقيق فيها.
• حرمان المتورطين في الدم قولاً وفعلاً من حقوقهم السياسية.
*المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي