بقلم: العميد أحمد عيسى*
درج رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على نشر رؤاهم للأمن القومي الأمريكي مجرد توليهم منصب الرئاسة ومباشرتهم الحكم، وفي هذا الشأن نشر البيت الأبيض يوم الخميس الماضي الموافق 4/ 3/ 2021 استراتيجية بايدن للأمن القومي في وثيقةٍ تكونت من 24 صفحة، وتضمنت 7847 كلمة، وحملت عنوان “دليل استراتيجية الأمن القومي المؤقتة”.
وفي تقديمه للوثيقة كتب الرئيس بايدن: “تجسد هذه الاستراتيجية رؤيتي لكيف ستعيد أمريكا انخراطها مع العالم”، مضيفاً: “لقد وجهتُ الإدارات والوكالات في إدارتي لضبط سياساتها وعملها وفقاً للرؤية المتضمنة في الوثيقة، إذ لا يمكن لأمريكا أن تظل غائبة عن المسرح الدولي”، خاتماً استهلالته للوثيقة بالقول: “في عهدي وعهد هاريس عادت أمريكا للدبلوماسية والتحالفات”.
وتكتسب هذه الاستراتيجية أهميتها من كونها تقدم مقاربة للسياسة الأمريكية الداخلية والخارجية تقوم على فلسفة شعار (عودة أمريكا، America Back)، الذي تكرر ذكره في الوثيقة (22) مرة، أي بواقع مرة تقريباً في كل صفحة، هذا الشعار الذي يتناقض البتة مع مقاربة سلفه الرئيس ترامب التي قامت على فلسفة شعار (أمريكا أولاً، America First)، إذ بينما غلبت على استراتيجية بايدن مفاهيم مثل الديمقراطية والدبلوماسية والشراكة والتحالفات وحقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي والمؤسسات الدولية، كان ترامب قد شرع في تنفيذ سياسته الخارجية ضارباً بعرض الحائط كل هذه القيم والمبادئ، كما تجلى في جملة المراسيم والإجراءات التي وقّعها خلال فترة رئاسته ضد حلفاء أمريكا وشركائها قبل خصومها.
وقد حددت الوثيقة المصالح الحيوية الأمريكية بثلاث مصالح، تتعلق أُولاها بحماية أمن الشعب الأمريكي، وتدور ثانية هذه المصالح حول إدامة ازدهار الاقتصاد الأمريكي وتوسيع مروحة الفرص أمام الشعب، فيما تؤكد ثالثة هذه المصالح حماية القيم الديمقراطية ونمط حياة الأمريكيين.
وأضافت الوثيقة أن حماية الأمن القومي الأمريكي تتطلب من الإدارة الجديدة العمل على:
• حماية ورعاية المصادر الأساسية للقوة الأمريكية المتمثلة في: الشعب والاقتصاد ومنظومة الدفاع القومي والقيم الديمقراطية الأمريكية.
• ضمان توزيع ناجع للقوة حول العالم، لردع الأعداء عن تهديد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وللحيلولة دون تحكمهم بالتقاليد الدولية، ومنعهم كذلك من الهيمنة على مناطق حيوية حول العالم.
• قيادة وحماية نظام عالمي وُضعت قواعده من خلال الشراكة بين الديمقراطيات القوية والمؤسسات الدولية.
وفي سياق شرحها لآليات تحقيق المصالح الحيوية، تطرقت الوثيقة إلى أهدافها في منطقة الشرق الأوسط، وكان لافتاً تناول الاستراتيجية الجديدة للشرق الأوسط بعد تطرق الوثيقة لإعادة بناء التحالف والشراكة الأمريكية مع الدول الديمقراطية في كلٍّ من: أوروبا الغربية أو شمال الأطلسي، وأستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا، والمكسيك، ثم الهند، ونيوزيلندا، وسنغافورا، وفيتنام ودول جنوب شرق آسيا، الأمر الذي يتناقض مع استراتيجية ترامب للأمن القومي، حيث احتلت منطقة الشرق الأوسط المرتبة الأولى في ترتيب أولويات السياسية الخارجية الأمريكية.
وجاء تناول الوثيقة للشرق الأوسط في الصفحة رقم (11) من خلال فقرة واحدة تكونت من 160 كلمة، أي ما نسبته 2,03% من مجموع كلمات الوثيقة، إذ بدأت الفقرة بالتأكيد على مواصلة ومحافظة الإدارة الجديدة على التزام أمريكا الحديدي بأمن إسرائيل، وسعيها لمزيد من الاندماج والتكامل مع جيرانها، واستئناف دور الولايات المتحدة كمحفز لحل دولتين قابل للتطبيق، والعمل مع الشركاء الإقليميين على ردع التهديد الإيراني للسيادة والتواصل الإقليمي، وتشويش عمل القاعدة والمنظمات المرتبطة بها، ومنع داعش من التجدد والانبعاث، وفي الوقت نفسه مضاعفة جهود الولايات المتحدة لمعالجة الأزمات الإنسانية وحل الصراعات المسلحة في المنطقة.
وفي سياق متصل، أضافت الفقرة أن الإدارة الجديدة لا تؤمن أنّ الحل العسكري هو الحل لتحديات المنطقة، وعلى هذا الأساس لن تعطي إدارة بايدن شيكاً على بياض لأيٍّ من شركائها في المنطقة لتننفيذ سياسات تتعارض مع المصالح والقيم الأمريكية، وعلى ذلك سحبت الولايات المتحدة تأييدها للعمليات العسكرية ضد اليمن، ومنحت الأمم المتحدة كل الدعم لإنهاء الحرب هناك، وختمت الفقرة بالتأكيد أن الهدف الأمريكي في الشرق الأوسط هو تخفيف التوتر في الإقليم، وخلق فرص لكل شعوب المنطقة بتحقيق تطلعاتها.
وتُظهر القراءة المتأنية لرؤية الرئيس بايدن لمبدأ حل الدولتين، كما وردت نصاً في دليل استراتيجية الأمن القومي المؤقتة، أنها تقوم على أساس مواصلة التزام واشنطن الحديدي بأمن إسرائيل، والسعي إلى مزيد من الانفتاح والتطبيع مع الدول العربية، واستئناف دور المحفز على حل الدولتين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك اختلافاً جوهرياً بين الأفعال (الالتزام، والسعي، والاستئناف)، إذ إن استئناف الدور الأمريكي لا يخلق التزاماً أمريكياً بتحقيق نتيجة إقامة دولة فلسطينية تقابل تطلعات الشعب الفلسطيني، لا سيما أنّ الدولة الفلسطينية التي يتطلع إليها الشعب الفلسطيني لا تخدم أمن إسرائيل وفقاً لخطاب كل المكونات السياسية اليهودية في إسرائيل، الأمر الذي يجعل من أيّ ضغطٍ أمريكيٍّ مأمولٍ من الفلسطينيين على إسرائيل بقبول حل الدولتين عملاً مبطلاً للالتزام الأمريكي الحديدي بأمن إسرائيل.
وعلى ضوء ذلك، يُخطئ الفلسطينيون أيّما خطأ إذا بنوا استراتيجيتهم السياسية على أساس أن الدولة الفلسطينية قد أصبحت في متناول اليد في عهد إدارة بايدن ونائبته كاميلا هاريس.