يتساءل مراقبون كيف سينعكس قرار محكمة العدل العليا في إسرائيل، بمنع آرييه درعي من مواصلة عمله كوزير، على الصراع السياسي الداخلي، والسجالات الساخنة حول “الإصلاحات” العميقة في النظامين السياسي والقضائي فيها، وعلى حكومة نتنياهو السادسة.
وكانت المحكمة الإسرائيلية العليا قد قبلت التماساً قدمته منظمات حقوقية، قبل نحو الشهر، للحيلولة دون تعيين آرييه مخلوف درعي، رئيس حركة “شاس” لليهود الشرقيين الأورثوذوكس (الحريديم)، وزيراً في الحكومة، فيما لم يكترث نتنياهو للالتماسات، وأسند حقيبتي الداخلية والصحة لدرعي، إضافة لتعيينه نائباً له، لكن قرار المحكمة العليا أخذهما على حين غرة، رغم توقعاتهما بموقف القضاة.
في قرارهم أكد عشرة من بين أحد عشر قاضياً في المحكمة العليا، الهيئة القضائية الإسرائيلية الأعلى، أن تعيين درعي وزيراً ليس شرعياً، نتيجة عدة مسوغات أغلقت الباب تماماً أمام الاحتفاظ بدرعي في الحكومة. قبيل القرار كان الائتلاف الحاكم يتوقع صدور قرار بذلك، لكنه لم يتوقع هذا الإجماع الواسع لقضاة العليا، بمن فيهم القضاة المحافظون وذوو التوجهّات اليمينية، مثلما لم يتوقع تعليل قرارهم بمسوغات من غير الممكن الالتفاف عليها.
الائتلاف الإسرائيلي الحاكم لم يتوقع هذا الإجماع الواسع لقضاة “العليا”، بمن فيهم القضاة المحافظون وذوو التوجهّات اليمينية، مثلما لم يتوقع تعليل قرارهم بمسوغات من غير الممكن الالتفاف عليها.
حتى الأمس اعتقد أقطاب الائتلاف، برئاسة نتنياهو، أن المحكمة ستقبل الالتماسات، وتسقط درعي من الحكومة، لكنهم خططوا لتشريع سريع خاطف يلغي صلاحية المحكمة العليا بالاعتماد على ما يعرف ببند المعقولية الكامنة بكل قرار حكومي، وبالتالي فتح الباب أمام تعيين درعي وزيراً بعد إقالته استجابة لحكم المحكمة. وبند المعقولية هو آلية ووسيلة معتمدة من قبل المحكمة، منذ عقود، وهي تتيح للقضاة إصدار أحكام بتقييد السلطة التنفيذية ليس بالاعتماد على القوانين فقط، إنما على مدى منطقية ومعقولية قرارات الحكومة، وبالنظر لمصالح الدولة والمجتمع، وهذا ما يعتبره معسكر اليمين الصهيوني صلاحية زائدة واستبداداً للجهاز القضائي على حساب السلطتين البرلمانية والتنفيذية.
وعلل القضاة حكمهم، الذي يغلق الدائرة على وزارة درعي، بالإشارة لتراكم التهم والشبهات والإدانات السابقة له، رغم تقادمها، علاوة على إدانته قبل عام بالتحايل على سلطات الضريبة، ولكنهم أشاروا لما هو أخطر، وهو تغرير درعي بمحكمة الصلح في القدس المحتلة قبل نحو العام. وكان درعي قد توصل في 2021 لصفقة مع النيابة العامة يعترف بها في التورط بالتحايل الضريبي، والتهرب من دفع ضرائب، مقابل عدم سجنه، وعدم اعتبار إدانته وصمة عار، مقابل إعلانه التنحي من السياسة. لكن درعي، وبعد إعلان استقالته من الكنيست في 2022، وإعلان تنحيه من السياسة، عاد وقدّم نفسه مرشحاً للبرلمان، وعين وزيراً، وهذا ما اعتبره القضاة تغريراً بالجهاز القضائي، والتنكر لتعهدات سابقة قاطعة، وهذا دفعهم لوقف توزيره، وسدّ الطريق أمامه، ولا يبقي أمام نتنياهو خيارات أخرى عملياً إلا إذا بادر لتفكيك حكومته، والذهاب لعملية تشكيل حكومة جديدة يعين فيها درعي رئيساً للحكومة بالوكالة، ولكن ليس واضحاً بعد هل سيقبل درعي بذلك أم لا، مكتفياً بالقول إنه سيواصل “الثورة” التي قادها، وإنه سيعود من النافذة إن أغلقوا الباب أمامه.
أزمة دستورية خطيرة
وفيما يلتزم نتنياهو الصمت، قال وزير القضاء في حكومة الاحتلال ياريف لافين إنه سيمضي في إصلاحاته العميقة حتى يمكّن درعي من البقاء في الحكومة، فيما تحذر المعارضة من مغبة عدم احترام الحكومة لقرار المحكمة العليا، لأن ذلك سيدفع لأزمة دستورية خطيرة من شأنها أن تخلق حالة فوضى في غاية الخطورة والحساسية تبدو فيها الحكومة مخالفة للقوانين ولا تحترمها.
ويقود لافين، منذ تشكيل حكومة نتنياهو الجديدة، إجراءات لتقليص صلاحيات الجهاز القضائي وتقزيمه، بدعوى أن الشعب هو صاحب السيادة، وهو الذي يقرر من خلال منتخبيه في الكنيست، ومن ثم في الحكومة. غير أن المعارضة وحتى أوساط محسوبة على اليمين، أو كانت في حزب الليكود، أمثال رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين، ووزير القضاء الأسبق دان مريدور، ووزير الطاقة الأسبق بيني مناحيم بيغن، يرون أن ما يقوم به نتنياهو ولافين وحكومتهما هو انتقام شخصي بعد محاكمة نتنياهو وعدد من الوزراء بتهم فساد، في السنوات الأخيرة، علاوة على رغبتهم بالسيطرة والهيمنة على كل مقاليد الحكم.
إسرائيليون يرون أن ما يقوم به نتنياهو ولافين وحكومتهما هو انتقام شخصي بعد محاكمة نتنياهو وعدد من الوزراء بتهم فساد.
من أول غزواته
وربما تكون هذه التطورات ضربة موجعة لمكانة وهيبة حكومة نتنياهو السادسة في هذه الفترة المبكّرة، وبالنسبة لدرعي هي ضربة بالرأس، وهو يبدو كمن كسر عصاته الوزارية في أول غزواته، وربما يكون إخراجه من الحكومة كرة ثلج ستتدحرج، وتعود كيداً مرتداً على حزب “شاس”، وعلى الحكومة وتدفع لتقصير عمرها. ولا يستبعد مراقبون أن تفضي هذه التطورات لخلافات داخل حزب “شاس” على الصدارة بعد خروج درعي الوشيك من الحكومة، وربما تنعكس هذه الخلافات على مستقبل الائتلاف الحاكم.
وهناك من يتساءل، بالتزامن، كيف سيؤدي قرار المحكمة العليا على السجالات الساخنة المتصاعدة بين المعسكرين المؤيد للإصلاحات وبين المعسكر المعارض لها، ويعتبرها انقلاباً على الديمقراطية؛ هل ستدفع الفرقاء لتسوية وسطية تحول دون دخول إسرائيل في حالة سجال، وربما احتراب داخلي، أم العكس؟ ويبدو أن الرواسب والحسابات الشخصية التي زاد وزنها في اعتبارات الأحزاب والقيادات السياسية الإسرائيلية، في ظل تراجع مخاطر العدو العربي الخارجي ودخول دول عربية دائرة التطبيع، ستدفع نحو تصعيد حكومة الاحتلال إجراءات تقليص صلاحيات السلطة القضائية واستفراد السلطة التنفيذية بالسلطة بعد هذا الحكم، مما يعمق الشرخ.
بين هذا وذاك، المؤكد أن هذه الخلافات والسجالات الساخنة تعبّر أيضاً عن تحولات عميقة تشهدها دولة الاحتلال في العقود الأخيرة، وأهمها ديموغرافية، مفادها تزايد عدد اليهود الشرقيين والمتدينين الأصوليين (الحريديم) والمستوطنين مقابل تراجع عدد اليهود الغربيين ممن يحاولون الحفاظ على هيمنتهم على دوائر المؤسسة الحاكمة (بصفتهم النخب التقليدية القديمة)، كالمحاكم والنيابة العامة والصحافة وغيرها. ويجمع عدد كبير من المراقبين في إسرائيل على أنها تتجه لتكون أكثر دينية وظلامية وعنصرية ويمينية وأقل ديمقراطية.
درعي يهودي من أصل مغربي
ولد درعي في مدينة مكناس في المغرب عام 1958، وهاجر مع عائلته إلى البلاد في 1968. متزوج، وله تسعة أولاد، ويسكنون في القدس المحتلة. ظهر آرييه درعي على الساحة السياسية العامة لأول مرّة، حينما تولى منصب مدير عام وزارة الداخلية، في العام 1986، حينما كان له من العمر 26 عاما، وكان الوزير من حزبه، موشيه بيرتس. وفي نهاية العام 1988، تولى حقيبة الداخلية، من دون أن يكون عضو كنيست، عن حزبه “شاس”. في تلك المرحلة، كان قد بدأ يقود فعلياً حركة “شاس” سياسياً، رغم أن تقارير تقول إنه القائد السياسي الفعلي، منذ تأسيس الحركة في العام 1984، على يد زعيمها الروحي الحاخام عوفاديا يوسيف، وهو من كان في سنوات السبعين، الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين. وجاء تأسيس الحركة، بهدف الخروج من مظلة أحزاب الحريديم لليهود الأشكناز الغربيين. وقد حصل درعي على هذه القوة السياسية في الحزب نتيجة لقربه الخاص من عوفاديا يوسيف.
المؤكد أن هذه الخلافات والسجالات الساخنة تعبّر أيضاً عن تحولات عميقة تشهدها دولة الاحتلال، وأهمها ديموغرافية.
الإنسان أهم من الأرض
وبقي درعي في منصبه وزيراً للداخلية حتى العام 1992، وبعد انتخابات ذلك العام، حافظ على منصبه، لما يزيد عن عام بقليل، في حكومة إسحاق رابين، واضطر للاستقالة بعد تقديم لائحة اتهام بتلقي الرشوة ضده. وحكم عليه في 1999 بالسجن أربع سنوات لإدانته بتلقي الرشوة بقيمة 150 ألف دولار، حولها رجل أعمال يهودي أمريكي لحساب زوجته، وتم اقتناء شقة بها في القدس المحتلة. وبعد عامين ونصف العام أفرج عنه، وبعد سنوات قليلة انتخب نائباً في الكنيست عن حزبه “شاس”، بعدما كان عليه البقاء خارج الحلبة السياسية لمدة عشر سنوات، من يوم صدور الحكم، بموجب قانون قائم.
وعاد درعي إلى الكنيست في انتخابات مطلع العام 2013، حينما كان يرأس الحركة خصمه إيلي يشاي، ونشأت حينها إشكالية رئاسة الحركة، ففرض يوسيف رئاسة ثلاثية، تضم يشاي ودرعي وأريئيل أتياس، الذي استقال لاحقاً من الكنيست، ولكن لم تمر فترة طويلة حتى عاد درعي رئيساً للحركة، بالإطاحة بإيلي يشاي. بعد موت عوفاديا يوسيف، في أيلول/ سبتمبر 2013، نشأت مشكلة رئاسة الحركة سياسياً من جديد، بعد أن ظهر خلاف أيضاً حول الزعامة الروحية، التي رست على أحد أبناء يوسيف. إلا أن يشاي لم يرض بالوضع القائم، وانشق عن الحركة قبل انتخابات 2013، وشكّل قائمة منافسة. وبقي درعي حليفاً وفياً لنتنياهو، طيلة السنوات الماضية، رافضاً الانضمام للمعسكر الخصم برئاسة يائير لبيد، ومكافأة لدوره عين وزيراً في حقيبتين، ونائباً لرئيس الحكومة، لكن المحكمة العليا قطعت الطريق عليه، بعد نحو شهر من انطلاق حكومة نتنياهو، وهو يرى بذلك ملاحقة له ولكل اليهود الشرقيين من قبل “أقلية ليبرالية يهودية غربية”، كما قال، ويقول أتباعه، ممن تجمهروا حول بيته، في الليلة الماضية، كإعلان تضامن معه، وهناك من وصفها بالمشاركة في “بيت عزاء”.
يذكر أنه في مطلع سنوات التسعين، أبدى درعي توجهات تقبل بالتفاوض وحل الصراع، ووقف من وراء الفتوى الدينية التي أصدرها يوسيف في فترة أوسلو، بأنه يجوز التنازل عن أراضي من أجل حقن الدماء. ويشار إلى أن عدداً من نواب “شاس” شاركوا في مبادرة جنيف.