بقلم: شرين الخطيب
في سابقة لم تحدث من قبل واحتفاء باتفاق السلام الأخير زين العلم الإماراتي مبنى بلدية تل أبيب حيث أضاءت مبناها بألوان العلمين الإماراتي والإسرائيلي بعد ساعات من الإعلان عن اتفاق التطبيع الثلاثي (أبراهام) بين الإمارات وإسرائيل بوساطة الولايات المتحدة الأمريكية. والذي سيتم توقيعه رسمياً خلال ثلاثة أسابيع من الإعلان كما صرح راعي الاتفاق.
وبالرغم من أن هذا التعاون لم يكن الأول من نوعه، بل كان تتويجا لمسيرة طويلة من العلاقات بين الطرفين، فالعديد من المعطيات في السنوات الأخيرة تشير لاحتمالية حدوثه، حيث سبقه العديد من مظاهر وأشكال التطبيع المختلفة على مدى عقدين من الزمن، إلا أنها المرة الأولى الذي يتوج فيها التعاون الثنائي بين الطرفين باتفاقية رسمية وبمباركة ليست فقط أمريكية وإنما عربية ودولية أيضا، حتى طُرحت أسماء الدول المرشحة في المرحلة القادمة لإتمام اتفاقيات مماثلة.
وفي واقع الأمر سيؤدي هذا الاتفاق لنسف جميع ما سبقه من المبادرات واتفاقيات السلام مثل مبادرة السلام العربية وقرارات القمم العربية والإسلامية، والعديد من قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، حيث أعلن الرئيس “ترامب” أنه اتفاق مختلف لأنه قائم على مبدأ “السلام مقابل السلام”، في حين قامت مبادرة السلام العربية على مبدأ “الأرض مقابل السلام”.
ما إن مضت بضعة أيام على إتمام الاتفاق حتى بدأت تتكشف تبعاته، حيث تم الإعلان عن الاتفاق على التطبيع الكامل للعلاقات الدبلوماسية بين الإمارات وإسرائيل، وأعلنت الخارجية الإسرائيلية توقيع اتفاق مع الإمارات في أبو ظبي لتطوير الأبحاث الخاصة بمواجهة فيروس كورونا. ووصفت وكالة أنباء الإمارات هذا الاتفاق بـ “الاتفاق التجاري الاستراتيجي”، حيث سيشكل باكورة الأعمال لفتح التجارة والاقتصاد والسياحة والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة والشراكة الفعالة بين قطاعات الأعمال الإماراتية والإسرائيلية لما فيه المنفعة والخير وخدمة الإنسانية، فيما نقلت الإذاعة الإسرائيلية الرسمية “كان” عن مسؤول دبلوماسي إماراتي قوله إن تبادل السفارات بين تل أبيب وأبو ظبي سيتم قريبا جدا.
حقيقة لا يمكن أن يُفسر هذا الاتفاق إلا في إطار انتهاز فرصة لتحقيق المكاسب المختلفة بعد تخطيط مسبق عبر ما يقارب عقدين من الزمن، فهو عبارة عن تبادل للمصالح ما بين طرفين على حساب طرف ثالث هو الجانب الفلسطيني. وإن كانت هذه الصفقة قد تمت من أجل مصلحة الفلسطينيين شعباً وقيادة كما ذُكر، وفي سبيل إيقاف المخطط الإسرائيلي بضم أراضي الضفة، فلماذا لم يكن الجانب الفلسطيني طرفا فيه؟ ولماذا تم تجاهله؟ أم أنها قد جرت العادة على استضعاف واستبعاد الطرف الفلسطيني فيما يخصه من اتفاقيات؟ وكما نعلم فقد عُقدت سابقا ورشة البحرين وتلاها متأخرا الإعلان عن بنود صفقة القرن دون أن يكون للجانب الفلسطيني أي تدخل لا مباشر ولا غير مباشر بذلك.
لا شك أن الإمارات ترغب بتعزيز حضورها في المنطقة نتيجة لما مرت ولازالت تمر به من أزمات ناتجة عن تداعيات الثورات في المنطقة العربية، من حيث تزايد الأزمات الاقتصادية، وصعود قوى إقليمية قد تشكل خطرا عليها مثل تركيا وإيران (التي تعتبر العدو الأول)، والخوف من تمدد التيارات الإسلامية حتى المعتدلة منها. جميع هذه العوامل جعلت الإمارات تفكر بالطريق الأسهل والأقصر لتأمين الحماية لنفسها ولا يمكن أن يكون هناك طريق أفضل من تعاونها مع إسرائيل تعزيزا لعلاقاتها السابقة مع أمريكا. ومع ذلك فلن يكون بمقدورها حصاد المزيد من المكاسب لأنها الطرف الأضعف ولا تمتلك أوراق قوة للمناورة.
وفي المقابل يحتاج نتنياهو هذا الاتفاق وبشدة حيث لا يزال يعاني من أزماته الداخلية بعد ثلاث جولات انتخابية لم تسفر عن تشكيل الحكومة. وبعد فشله في تنفيذ مخطط الضم حتى الآن بعد أن تم الإعلان عنه سابقا، عدا عن مواجهته للدعاوي القضائية بتهم الفساد التي هزت قاعدته الشعبية، وتحقيقا للرغبة الإسرائيلية بالتطبيع مع جميع الدول العربية المجاورة والتي تحاول بكل جهودها الاستمرار فيه منذ أن بدأته رسمياً في العام 1978.
ضمن قانون المفاوضات يتوجب رفع سقف المطالب للحصول على الأقل أو المطلوب، وهذا ما فعله نتنياهو بالضبط، فقط هدد بضم أراضٍ فلسطينية للحصول على ما يريد، أي أنه بدأ من نقطة هي الأعلى بكثير من سقف مطالبة ليفرض على الآخرين تحقيق ما يريد، ما يعني أن المكاسب التي حققها نتنياهو لم يكن يحلم بها أسلافه وبنفس الوقت تم إنجازها بلا مقابل لأن قرار التعليق المؤقت للضم –إن وُجد أصلا- قد تأجل لأسباب تخص الجانبين الإسرائيلي والأمريكي، وربما لم يكن نتنياهو ينوي القيام به أصلا، بل تم استخدامه كورقة رابحة ظهرت نتائجها اليوم.
وهناك بعض التحليلات الإسرائيلية التي تنفي وجود مخطط للضم أصلا والذي قد يكون أحد الاحتمالات، إلا أن نتنياهو أعلن صراحة أن الاتفاق جاء في مقابل “تأجيل قرار الضم” وليس “إيقافه” وهناك فرق كبير ما بين الحالتين. فقد علق السفير الأمريكي في إسرائيل ديفيد فريدمان على آلية عملية الضم في الضفة الغربية في أعقاب الإعلان عن الاتفاق بأن “مختلف الأطراف اختارت بدقة الصيغة، توقف الضم بشكل مؤقت وليس استبعاد الأمر نهائيا”.
ويدل ما سبق أن إسرائيل قد أمنت الحماية لنفسها في الحالتين، ويمكن لها في أي لحظة أن تخل بالاتفاق وتقوم بتنفيذ ما هو أكبر من مخططات الضم إن رأت الفرصة مواتية لذلك. ويمكن لها مستقبلاً أن تهدد بأي إجراء وتتنازل عنه فيما بعد مقابل حصولها على تنازلات قد تكون من أطراف عربية أخرى هذه المرة.
من جانب آخر، فان الإمارات التي ادعت بأن هذا الاتفاق جاء في مصلحة الفلسطينيين وليقدم خدمة لهم، لماذا لم تنتهر الفرصة وتناور على إتمام السلام العادل ما بين الطرفين، سلام قائم على أساس حل الدولتين أو حتى حل الدولة الواحدة، لماذا لم تفاوض على إيقاف عمليات الاستيطان والتهويد الذي كان ولا يزال يهدد عملية السلام؟ لماذا لم تفاوض الإمارات إسرائيل على وقف إجراءاتها اللاشرعية ضد المدنيين والتي تقوض فرص السلام وتهدد الأمن في المنطقة؟ لماذا لم تضغط على إسرائيل في سبيل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية القائمة على مبدأ (الأرض مقابل السلام)؟ لو فاوضت الإمارات على أي من هذه النقاط لكانت على الأقل تنازلات حقيقية مقابل تنازلات إسرائيل الوهمية.
لا تكمن المشكلة في تطبيع الإمارات الرسمي مع عدو أزلي رغم أهميتها، وإنما الخوف الأكبر هو أن تتبعها دولاً عربية أخرى على نفس الطريق بحسب نظرية الدومينو، ويصبح التنازل عبارة عن سلسلة تنازلات، وهو ما سيؤدي بالضرورة لتغيير شكل التحالفات في المنطقة بعد أن تتخذ عملية التطبيع مع إسرائيل طابعاً شرعياً بحجة الرغبة في إحلال السلام. وهي-أي عمليات التطبيع-في واقع الأمر إنما تقوم بتنحية عقود طويلة من الصراع والتوترات مقابل إبرام اتفاقيات تحقق مكاسب لمصلحة الدول المُطبعة، وستؤدي لتحقيق مكاسب لأطراف أخرى مقابل خسارة الطرف الأساسي صاحب الحق.