تحويل السياق الإسرائيلي للانتخابات إلى سياق وطني!

18 فبراير 2021آخر تحديث :
تحويل السياق الإسرائيلي للانتخابات إلى سياق وطني!
تحويل السياق الإسرائيلي للانتخابات إلى سياق وطني!

بقلم: باسل غطاس*

تضع انتخابات الكنيست المقبلة إطارًا وسياقًا إسرائيليين لأي نشاط أو نقاش عند الفلسطينيين في الداخل يتعلق بها، حتى المعارضون للمشاركة فيها لأسباب مبدئية أو غيرها يجدون أنفسهم من غير قصد يعملون داخل هذا الإطار، ولكنها مثل أي ظاهرة أو عملية حراك وتحول في السياسة والمجتمع، فإن كل شيء يحمل نقيضه. هذه الانتخابات تخلق مساحة كبيرة لعودة السياسة لحياة الناس وهمومها، ولخوض عميق في مركبات هويتنا وعلاقتنا بالدولة ومشروعها الاستعماري، وكذلك بعلاقتنا بالقضية الوطنية ومشروعها الوطني الغائب والمجزأ في أفضل الأحوال.

لا ينبغي ترك هذه المساحة والعزوف عنها، وإنما يجب التعامل معها على أنها فرصة لإجراء هذا الحرث العميق، وقلب كل حجر والوصول إلى كل شبر لكي ننظر في أوضاعنا وشؤوننا وخوض النقاش السياسي، من دون تشنج وبعيدًا عن المناكفات الانتخابية، والخروج من مربع خوض الانتخابات وقضية التمثيل وتوزيع المقاعد وعددها. بمجرد استخدام واع ورشيد لهذه المساحة، فإن النتيجة ستكون لصالح إعادة بناء الهوية وتمتين الرواية والذاكرة الجمعية في مواجهة عملية الأسرلة، التي تفرضها علاقات القوة مع الصهيونية ومؤسسات الدولة اليهودية الاستعمارية.

سأساهم في هذا النقاش بعيدًا عن موضوع التمثيل والقوائم، وإنما سأخوض في انعكاس مشاركة العرب في الانتخابات للكنيست على منظومة التفكير، والقيم، والمعايير التي تتحكم بخطابنا السياسي، وبالتالي على هويتنا ومصيرنا كجزء من شعب يتعرض إلى مشروع استعماري إحلالي وتطهير عرقي مستمر.

السؤال المركزي الذي أفكر فيه منذ سنوات واجتهدت للإجابة عليه في الماضي في أكثر من مقال، هل يمكننا كشعب من خلال أحزابنا طبعًا، خوض اللعبة السياسية الإسرائيلية التي تجري ضمن علاقات القوة وقوانين اللعبة التي يضعها نظام التمييز والفصل العنصري، والقيام بدور داخل البرلمان كلاعب مؤثر ومفيد لتحصيل الحقوق، وفي الوقت ذاته عدم الانزلاق إلى مهاوي الأسرلة وفقدان الهوية، والابتعاد عن الجذور، ومقايضة روايتنا التاريخية وكوننا أصحاب الوطن الأصليين بـ”إنجازات” مدنية وهمية، وقبول مواطنة مجتزأة في نظام استعماري؟

هل يمكن أن يتحول التمثيل العربي في البرلمان الإسرائيلي إلى تمثيل العرب كمجموعة قومية ضمن إستراتيجية واضحة، لطرح القضايا الجماعية من قبل قيادة شعب وليس مجموعة مشتتة من النواب تتنافس على النجومية والظهور في الإعلام، والقبول بدور يكاد يشبه دور الوسيط أو الوكيل بين السلطة والمواطن؟ هل يمكن حمل خطاب ومشروع ديموقراطي مدني يعتمد خطاب الحقوق والمواطنة المتساوية، ما يعني بالضرورة مقاومة البُنى والممارسات الاستعمارية للدولة التي تعرف نفسها دولة اليهود؟ أي بمعنى آخر، هل يمكن ترجمة شعار دولة كل مواطنيها على أنه مشروع نزع للطبيعة والبنى الاستعمارية للدولة العبرية؟ والذي من دونه لا مساواة حقيقية ممكنة ولا عدالة ولو نسبية متاحة.

هل من الممكن أن يقوم نوابنا بعملهم الهام والشاق والحفاظ على مسافة من النخب السياسية والإعلامية الإسرائيلية، وتسييج كيانهم الذاتي بالاحترام وعزة النفس وعدم القفز إلى حوض “السباحة”، والتماهي مع ما يخلقه المكان من ضجة وإعلام والكاميرات والعناوين، لدرجة مصادقة تلك “البرانجا” إلى درجة الشعور بالانتماء لها؟

قياس التجربة والنتيجة

إذا اعتمدنا قياس التجربة والنتيجة في تطبيق النظرية، يبدو للوهلة الأولى أن الجواب هو النفي؛ ومع ذلك، فهذا هو جانب واحد من ضمن جوانب عديدة يجب النظر فيها.

مع إقامة القائمة المشتركة عام 2015، كان هذا هو المأمول وكان هذا ما عولنا عليه في التجمع الوطني الديموقراطي، خصوصًا بعد أن تحولت المشتركة إلى الكتلة الثالثة في البرلمان. وقد توفرت فعلًا عوامل تأثير جيدة لو عملت المشتركة بانسجام، ومن خلال رؤية إستراتيجية تصبو لتمثيل المصالح الجماعية، النابعة من أننا شعب نعيش في وطنا ولنا حقوق تاريخية غير مشتقة من المواطنة. ولكن ومع الأسف، من الواضح أن المشتركة لم تحقق ما طمح إليه ناخبوها الذين حصدت ما يقارب من 90% من أصواتهم. بدل رفع سقف المطالب والعمل من خلال هذه الرؤية الإستراتيجية، لم تجتز المشتركة الامتحان ومنذ خطواتها الأولى تحولت إلى مجموعة مبعثرة من النواب يتنافس بعضهم على النجومية، ومن أقرب إلى “الصحن”، ومن تربطه علاقات أوثق بالوزير الفلاني أو العلاني، وكل يغني على ليلاه، وفشلنا كأحزاب في تحقيق الحد الأدنى من برنامج ومشروع المشتركة كمشروع وطني جماعي دعمته الغالبية الساحقة من المصوتين العرب، وسعى كل حزب، باستثناء التجمع، إلى تحقيق مكاسب فئوية من خلال المشتركة وتحسين حصتها من المشاركة للمرات القادمة؛ وكنا نواب التجمع ندفع بالاتجاه المعاكس بكل قوتنا، ونحاول رفع السقف وخصوصًا سقف الخطاب والممارسة، واستخدمنا الكوابح والفرامل أحيانًا، وبادرنا لفعاليات ذات بعد سياسي وطني أحيانًا (على سبيل المثال لا الحصر: لقاء عائلات الشهداء في القدس والعمل على تحرير جثامين الشهداء، ودخول مسجد الأقصى وكسر قرار نتنياهو، وغير ذلك الكثير إضافة لعملنا البرلماني اليومي المثابر). وتعرضنا نتيجة ذلك للإبعاد وعقوبات أخرى، ولكن في المحصلة كانت النتيجة العامة هي ما ذكرت. وجاء انشقاق المشتركة في انتخابات نيسان 2019 تحصيل حاصل لوضع المشتركة ككتلة برلمانية غير متماسكة، ومن دون بوصلة وتوجه إستراتيجي واحد.

قام برنامج التجمع السياسي كله على إمكانية الربط بين القومي والمدني، وإمكانية تحقيق ذلك من خلال مطلب المواطنة الكاملة في دولة لكل مواطنيها، أي بالضرورة في دولة تم نزع طبيعتها ومبناها الاستعماري العنصري؛ وكذلك مطلب الحقوق الجماعية كشعب أصلاني يعيش في وطنه. وقد نجح برنامج التجمع في أن يفرض تغييرًا إستراتيجيًا في خطاب عرب الداخل، وأن يشكل سدًا في وجه الأسرلة التي استشرت بيننا بعد اتفاقيات أوسلو ومناخ السلام وانتهاء الصراع بين “شعبنا ودولتنا”؛ فما الذي حدث حتى عادت مظاهر الأسرلة تنتشر وبشكل معقد ومركب أكثر، حتى في أوساط مثقفين وفنانين وأكاديميين، وأن بعض هؤلاء يستخدم مصطلحات ويتبنى مركبات الرواية الإسرائيلية ومفرداتها، كشيء عادي وطبيعي في كتاباتهم وخطابهم.

علينا هنا أن نعمل فعلا مبضع الجراح لكشف باطن تعقيدات وضعنا، وألا نخاف مما قد نكتشفه وأن نواجه بجرأة حقيقة واقعنا المتردي.

فما هو الرابط مثلا بين ترشح المخرجة ابتسام مراعنة في انتخابات حزب العمل، ومرور ذلك في الرأي العام مر الكرام بهدوء، ومن دون أن يثير عاصفة من الإدانة والاستنكار، وحتى لم يخجل العديد فقاموا بالمباركة لها وتهنئتها، وبين التوصية على غانتس من قبل المشتركة؟! وما يجمع لغة ومفردات خطاب التأثير و”بيضة القبان” وشعار” فقط لا بيبي”، وبين أخذ هذا التوجه إلى آخره من قبل منصور عباس والإسلامية الجنوبية لدرجة الانشقاق عن المشتركة.

نقف اليوم، أسابيع معدودة قبل الانتخابات، وهي كما كتبت في مطلع هذا المقال فرصة لمراجعة الذات، ومصارحة الناس، ولخوض المعركة على الوعي؛ وعلى الأحزاب المركبة للمشتركة القيام بذلك من خلال الدعاية والحملة الانتخابية وعدم الإنجرار لمربع تحصيل الخدمات والتساوق مع الخطاب الشعبوي الذي ستقوم به القائمة المنافسة؛ والأهم استيعاب درس الخطيئة التي ارتكبت بالتوصية على غانتس لرئاسة الحكومة، والتراجع عن خطاب الإيهام بالتأثير والمقايضة؛ كذلك هي فرصة للمعارضين ولكل من له اجتهاد في الموضوع، لكي لا ينحصر النقاش في خانة التصويت أو المقاطعة، وإنما على كيف نحصن المجتمع وخاصة الأجيال الشابة بالقيم والمفاهيم الوطنية، وكيف نطور ونمتن مشروعنا الوطني كأصحاب البلاد الأصليين، وكيف نزرع في النفوس القدرة على الجمع بين القيم الديموقراطية والحريات المدنية الليبرالية، وبين القيم الوطنية الراسخة، من دون اعتذار من ناحية، وبلا تعصب من ناحية أخرى. دون حصول كل ذلك، ستكون انتخابات أخرى تقاس نتائجها بعدد المقاعد، وبقياس المكاسب التي حققها كل حزب.

*نائب سابق واسير سابق/عن “عرب 48”