ليت ظاهرة القرار بقانون تتوقف فورا!!

بقلم: المحامي إبراهيم شعبان

في ظل جائحة صحية شملت الكرة الأرضية جمعاء وفلسطين من ضمنها، وفي ظل خطة ترامب الخطيرة التي قلبت عناصر الحل السياسي رأسا على عقب، وفي ظل قرارات الضم المرتقبة من حكومة احتلالية إسرائيلية يمينية متطرفة تنفيذا لخطة ترامب، وفي ظل انغلاق الأفق السياسي في المنطقة، وفي ظل عجز مالي حاد تشكو منه السلطة، تطل علينا قرارات بقوانين ( قوانين مؤقتة أو قوانين مستعجلة )، لتقرر هبات وزيادات ثم لتعود وتسحب في ضوء انحراف تشريعي واضح لكل من له عينان. ويكثر الهرج والمرج، وتكثر التعليقات وتتندر وسائل التواصل الإجتماعي، وتكتب المقالات، والبعض يدعو للجنة تحقيق، أو إقصاء فلان أو علان، وفي النهاية تهدأ الأمور وينسى الناس، ويا دار ما دخلك شر!

في الأصل الدستوري، هناك في كل دولة من دول العالم ثلاث سلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وهذه السلطات منفصلة عن بعضها البعض، ويسودها مبدأ الفصل ما بين السلطات. وهذا الفصل هو فصل مرن وليس جامدا. وحتى أكون واقعيا، فهذا المبدا يعني ببساطة أن القضاء لا يستطيع سن التشريعات مع أنه قد يبدو ظاهريا أنه الأقدر، بل هو يفصل في المنازعات فقط، والحكومة لا تستطيع سن التشريعات مع أن هذا العمل محبب للسياسيين ولكن هذا العمل منوط بالسلطة التشريعية وأعضائها بغض النظر عن كفاءتهم القانونية، وهي التي تشكل البرلمان في دول العالم. اما السلطة التنفيذية فهي تملك المال والسلاح ورجال الأمن والموظفين وتخال نفسها الحاكم بأمر الله وتغتر بدورها وقوتها، لكنها حتى تكون شرعية وذات مشروعية، يجب أن تحكم بموجب القانون والقانون فقط. ومن البدهي أن تسود علاقة تعاون واحترام بين هذه السلط جميعا.وليس هناك سلطة رابعة أو خامسة أو سادسة كما يروج البعض لغاية في نفس يعقوب.

وحتى يكون هناك دولة قانونية، أو ما يسمى بسيادة القانون، لا بد من فصل بين السلطات الثلاث، ولا يجوز أن تجتمع سلطتان في يد واحدة. ومن باب أولى لا يجوز أن تجتمع السلط الثلاث في يد واحدة. ولقد قرر فقهاء القانون الدستوري ومنذ زمن بعيد، أن اجتماع سلطتين في يد واحدة بؤدي إلى الإستبداد والطغيان وقيام الدولة البوليسية الدكتاتورية. والسبب جد بسيط، أن التشريعات حينذاك تكون بالقدر والمقاس التي توافق وتنطلق منها السلطة التنفيذيية ذات القوة والمال، ويطلق عليها ظاهرة الإنحراف التشريعي. فيفقد البرلمان دور الرقابة والتحقيق وحجب الثقة وتغدو السلطة التنفيذية حرة بدون رقيب أو حسيب وهي السلطة القوية في كل أنحاء العالم والتي ما فتئت تعتدي على السلط الأخرى إلى أن تصبح تابعة لها أو ذيلا لها. والفصل بين السلطات ليس بالأمر المثالي أو الإستثنائي بل هو امر عادي دستوري قررته جميع دساتير العالم ومنها قانوننا الأساس.

منذ آخر انتخابات فلسطينية، وما تلاه من إنقسام وانشطارالمجلس التشريعي إلى شطرين، وحرد كل جزء عن الآخر، وكل جزء معتقدا ببلاهة وسذاجة أنه يمثل الشرعية والشعب. وغياب المجلس بكامله عن العملية التشريعية بل تغييب نفسه عن عملية خلق القوانين أي سنها، بدأ النخر في القوانين وهيكلتها وتعديلها وإلغائها. ولم يستطع جناحا المجلس أن يلتقيا في الحدود الدنيا كما يحدث في كل برلمانات العالم، بل أصرا على التشرذم والإنقسام بحجج وذرائع واهية. وبدأ الإلتجاء إلى ما يسمى بالقرار بقانون وفقا لصلاحية الرئيس بموجب المادة 43 من القانون الأساس لعام 2003.

رغم تحذير كثير من القانونيين الموضوعيين والمحايدين لهذا اللجوء وبيان عناصره الدقيقة، فهو ليس قضية سياسية، ولا فئوية ولا فتحاوية ولا حمساوية، بل أمر يخص الشعب الفلسطيني بأجمعه، إذا حصلت ضرورة لا تحتمل التأخير ولا تحتمل التأجيل. حينها يحق للرئيس أن يصدر قرارا بقوة ومرتبة القانون اي التشريع العادي البرلماني، على أن يعرض هذا القرار بقانون على المجلس التشريعي فيما بعد اي حينما يعاود المجلس الإنعقاد أو يعاد انتخابه مرة أخرى وفي اول جلسة له. والمشكلة أن لهذا القرار مرتبة التشريع من حيث الإلزام. وكأنه تم استبدال البرلمان أي المجلس التشريعي بالرئيس. وبذا يكون الرئيس بديلا للمجلس التشريعي، ويجمع بين يديه سلطة التنفيذ وسلطة التشريع في آن واحد.

بدأت هذه الظاهرة على استحياء وبشكل قليل رغم خطلها وخطئها، إلا ان الكثيرين تساهلوا معها، وراهنوا عل انها ستبقى بقدر محدود وقليل. ولم يدر بخلد الكثيرين أن طموحات السياسيين وفتاوى رجال البلاط لتمرير قوانين لم تشكل يوما مبررا حقيقيا لاستعمال هذه الصلاحية وهي ” ضرورة لم تحتمل التأخير ” بل هي لم تشكل ” ضرورة “. وهكذا فتح القمقم، وجرى سيل من التشريعات المؤقتة، التي تسمى قرار بقانون لمعالجة حالات ” الضرورة التي لا تحتمل التأخير “، ولم يتوقف هذا السيل عن الجريان لحين كتابة هذه السطور.

وهكذا راينا قرارات بقانون من كل حدب وصوب، وانهالت علينا قوانين مؤقتة في كل صغيرة وكبيرة، وما زالت. فهذا قرار بقانون للقضاء ومذبحة القضاء، وهذا قرار بقانون للوزراء والمحافظين، وهذا قرار بقانون للأمن الوقائي، وهذا مرسوم للكورونا. واختلط الحابل بالنابل. وأخر الأخبار وغير معلوم مدى دقتها يتعلق بالنشر في الجريدة الرسمية وطلب موافقة رئاسة الوزراء لعملية النشر، وهذا خرق للقانون الأساس والنظام الداخلي للمجلس التشريعي.

قصد من هذه الظاهرة معالجة أوضاع خطيرة لا تحتمل التأخير أو مصاريف لا تحتمل التأجيل أو التسويف تمر على البلاد، ويكون فيها المجلس التشريعي غائبا أو منحلا. حينها وحينها فقط يحق للرئيس أن يصدر قانونا مؤقتا أسماه مشرعنا ” قرار بقانون “، وشخصيا أفضل تسميته بالمؤقت لأنه يجري لفترة مؤقتة ويحق للمجلس التشريعي أن يلغيه أو يبقيه أو يعدله.

يحلو للسياسيين وجود فراغ قانوني، لأن هذا يعطيهم هامشا واسعا وحرية كبيرة في اتخاذ القرار. ويعتقدون وبصحة أن القانون يقيدهم ويحد من قدرتهم على التصرف. بل إن بعض السياسيين يعتقدون وبجزم أنهم يحسنون التصرف أكثر من القانون، لذا لا بأس من الإلتفاف عليه فرايهم أفضل منه. أضف أن السياسيين يتعاملون مع الألفاظ بطريقة هلوية مرنة بينما القانونيون يرون أن الألفاظ وعاء المعاني ويجب التقيد بها مهما كانت وأنها وضعت من أجل مصلحة الوطن والمواطن. وقد بادر بعض السياسيين إلى تغيير القوانين وإلغائها، فقط لأنها قديمة دون النظر إلى تطبيقها الجيد وكفاءتها وفعاليتها. ولم ينظر السياسيون بإيجابية إلى الدور القانوني في كثير من القضايا، بل شكل القانون ترفا فكريا ليس إلا. بل وصل الأمر إلى شخصنة القانون.

وقطعا لا أنفي تهمة تهاون كثير من القانونيين ولا تنازلهم عن مبادىء القانون الرشيدة، ومنهم قضاة ومحامون ورجال فكر ومحاضرون جامعيون. ولحق بهم في هذا الركب منظمات حقوق إنسان ومجتمع مدني إما وجلا وخوفا أو نفاقا. فقد دار نزاع حارق بين قضاة ووزراء عدل والنيابة العامة وديوان الفتوى والتشريع ونقابة المحامين. وما لبث أن تفشى هذا المرض وانتشر في جميع أجزاء الجسد القانوني الفلسطيني.

حتى لو جدلا أجزنا ولمقاصد النقاش فقط، ما يسمى قرار بقانون الرئاسي، لشكل هذا عبئا على عاتق المشرع القادم أي المجلس التشريعي. وإلى متى سيبقى القرار بقانون مقبولا وقد مر الآن أكثر من أربعة عشر عاما على هذه الصلاحية الإستثنائية والمفروض أن تكون مؤقتة لا تتجاوز أشهرا معدودات فإذا بها سنين طوالا. هذا أمر غير دستوري وغير قانوني، فالقوانين المؤقتة أجيزت حينما يكون المجلس التشريعي غائب أو منحلا، أي أن يكون في إجازته الصيفية المعتادة أو أن يكون الملك أو الرئيس أو الأمير قد حله وأنهى وجوده.

وما دام القانون الأساس لم يجز للرئيس حل المجلس التشريعي، فإن صلاحية إصدار قرار بقانون تبقى في حالة وحيدة وهي حينما يكون المجلس التشريعي في إجازته الصيفية المعتادة التي لا تزيد عن عدة اشهر, وليس من المعقول ولا من المقبول أن تستمر هذه الحقبة لسنين عدة، في ظل عدم وجود مجلس تشريعي لانتهاء ولايته الزمنية. وليس مقبولا أن تستمر هذه الحقبة الزمنية لفترة أخرى طالت أو قصرت لتعلق الشعب الفلسطيني ومصالحه بوجود مجلس تشريعي منتخب ليكون رقيبا وحسيبا على السلطة التنفيذية. ولي من المقبول دستوريا استمراء وسيلة القرار بقانون لأنها غير دستورية في كثير من الأحيان، فضلا عن الحياة تعج بالمصالح وتطورها ولا يمكن أن تقف جامدة بدون حراك حتى يحل خلاف أو أي أمر آخر.

من هنا يغدو لزاما إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية عملا بما قرره القانون الأساس وقانون الإنتخابات، وبما اتفق عليه الفرقاء الفلسطينيون ودعوة الرئيس. وإجراء الإنتخابات ليس ترفا كما يتخيل البعض، بل هو ضرورة دستورية قانونية لا تكتمل عناصر الدولة إلا بقيام السلطة التشريعية وممارسة وظائفها الدستورية.

ولا بد من إيقاف هذه الظاهرة التي سميت قرار بقانون فورا لفترة امتدت على مدى أربعة عشر عاما، وأورثت الأجيال مشاكل قانونية لن يستطيع حلها إلا المجلس التشريعي القادم حكرا. وعدم قبول أي تبريرات أو ذرائع أو حجج لمعاودة إصدار القوانين المؤقتة. فلتتوقف هذه الظاهرة غير الضرورية وغير اللازمة والضارة، فالقوانين الموجودة تكفي وتزيد إن وجدت تطبيقا سليما وإرادة غير معيبة. وصدق الفقهاء حينما قالوا” ما لا يدرك كله لا يترك جله” و ” درء المفاسد أولى من جلب المنافع “.

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …