يتصاعد السخط الشعبي في بلغاريا ضد الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزة، وضد القمع في الضفة الغربية، وذلك رغم الدعم الثابت الذي تقدمه الحكومة البلغارية لإسرائيل، والذي لا يوجد له تفسير رسمي واضح.
وعلى هامش جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، التقى رئيس الوزراء روسين جليازكوف بمنظمات يهودية في نيويورك، وأعلن أن إسرائيل “شريك إستراتيجي” لبلغاريا.
في المقابل، وبعد نشر الخبر في الصفحة الرسمية للحكومة البلغارية على فيسبوك -المنصة الأكثر استخداما في البلاد- تصعب قراءة تعليق إيجابي بين آلاف ردود الفعل السلبية.
قال الخبير الدبلوماسي ونائب وزير الخارجية البلغاري الأسبق ليوبومير كيوتشوكوف إنّ “موقف الحكومة البلغارية غريب وغير منطقي، فهي تتجاهل وتدير ظهرها لسياسة التوازن التي كانت راسخة في العلاقات مع كلٍّ من إسرائيل والدول العربية، ذلك التوازن الذي أتاح تعاونا نشطا مع كلا الجانبين”.
وأضاف كيوتشوكوف، وهو أيضا المتحدث باسم الجمعية الدبلوماسية البلغارية، أنّ “العلاقات مع دول الشرق الأوسط كانت من أهم أولويات السياسة الخارجية البلغارية، أما اليوم، فقد أصبحت بلغاريا من الدول التي تعرقل تبنّي مواقف مشتركة داخل الاتحاد الأوروبي (بشأن إسرائيل)”.
وأوضح أن صوفيا “تتحرك في إطار السياسة الأميركية تجاه الصراع في غزة، وبذلك تتجاهل مصالحها الوطنية، وتضع مستقبل علاقاتها مع دول المنطقة على المحك”.
وتزايد التوتر أيضا بسبب رد الفعل الرسمي البلغاري على احتجاز أسطول الصمود العالمي، الذي كان من بين المشاركين فيه المواطن البلغاري والقبطان فاسيل ديميتروف، إذ صرّح رئيس الوزراء روسين جليازكوف بأن “المشاركين أنفسهم كانوا يدركون أن هناك حالة حرب معلنة في إسرائيل، وبالتالي فإن المخاطر كانت معروفة ومقبولة بوعي منهم”.
يوضح أستاذ العلوم السياسية أنطوني تودوروف طبيعة السياسة الخارجية البلغارية الحالية، قائلا في حديثه إن “الحكومات البلغارية -عادة- عندما تواجه قضية جيوسياسية كبرى، تتردد وتتساءل إلى أي جهة ينبغي أن تنظر، هل نحو إحدى القوى العظمى؟ أو نحو اللاعبين الرئيسيين؟ كأن تختار مثلا الوقوف مع توجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو مع الاتحاد الأوروبي”.
ويعتقد تودوروف أن هذا هو السبب الرئيس والجوهري وراء هذا الموقف المتحفظ للحكومة البلغارية تجاه إدانة ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية في غزة، موضحا أن السياسيين البلغار واجهوا الحيرة نفسها عام 2003 خلال الحرب على العراق.
كما أشار أيضا إلى عامل آخر مؤثر، قائلا “هم يراقبون ما تفعله ألمانيا، لكن ألمانيا لها تاريخ مختلف تماما مع اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، أما بلغاريا -فعلى العكس- فيمكنها أن تتخذ موقفا أكثر انتقادا تجاه الحكومة الإسرائيلية الحالية”.
وفي سياق متصل، وُجّهت اتهامات بمعاداة السامية إلى يوليانا ميتوديفا، مؤسسة ورئيسة تحرير منصة “مارجيناليا”، وهي أشهر منصة إعلامية تُعنى بحقوق الإنسان في بلغاريا، بناء على شكوى منظمة “شالوم” الممثلة لليهود في بلغاريا رغم وجود منظمات أخرى.
وجاء هذا الاتهام لأن “مارجيناليا” كانت من أوائل الوسائل الإعلامية التي دانت سياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل في غزة، بينما تُعَدّ رئيستها ميتوديفا من أبرز الخبراء في الهولوكوست في بلغاريا.
وقد قادت على مدى سنوات حملات للحفاظ على الذاكرة التاريخية لتلك المأساة الإنسانية.
نظّمت منصة “مارجيناليا” ندوة شارك فيها أساتذة جامعيون بارزون، وخبراء إعلام، وشخصيات عامة، بمناسبة الذكرى الثانية لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
وكان من بين الضيوف المميزين الدكتورة ميلينا أنجيلوفا-تشي، وهي طبيبة تخدير عادت للتو من مهمتها الإنسانية الثانية في مستشفى “ناصر” بمدينة خان يونس.
وبدأت الطبيبة خطابها بأن “كل ما تشاهدونه في وسائل الإعلام البديلة هو الحقيقة”، وقالت في شهادتها إنه “لا يوجد أي جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي يعمل، كما لا يوجد في جنوب غزة سوى جهاز تصوير مقطعي واحد فقط يعمل”.
وتابعت “حتى تاريخ الأول من سبتمبر/أيلول الماضي، قُتل 1890 عاملا في المجال الطبي، و365 آخرون محتجزون في السجون الإسرائيلية، ورغم وجود كفاءة طبية، فإنه لا توجد أدوية ولا مستلزمات طبية، ولا توجد في مستشفى ناصر مختبرات للتحاليل الميكروبيولوجية، وأجهزة تحليل الغازات خارج الخدمة، ولا توجد رعاية مركزة”.
وحسب أنجيلوفا-تشي، تفتقر المنظومة الطبية إلى أبسط الأدوات لمتابعة المرضى في وحدات العناية المركزة، وقالت “في بعض الأحيان لم أجد حتى المسكنات المخدّرة لإجراء عمليات التخدير”.
واختتمت الدكتورة حديثها بالقول إنه “عندما ينتمي الإنسان إلى قضية عادلة، فذلك هو مصدر القوة، وهو الدعم النفسي بالنسبة لي، من الصعب عليّ أن أكون بعيدة عن القطاع، أبحث عن طريقة للعودة، وآمل أن أعود مجدّدا في الشتاء، أنا ممتنة جدا، لأنني تمكنت من أن أكون بين هذا الشعب الصامد وقلبي ينتمي إلى غزة”.
استضافت العاصمة صوفيا مؤخرا مباراة في كرة السلة جمعت بين الفريق الإسرائيلي “هبوعيل” والفريق الإسباني “برشلونة”، كما قامت السلطات البلغارية بإلغاء مظاهرة كانت قد نظمتها منظمة العفو الدولية أمام القاعة التي أقيمت فيها المباراة.
وشهدت بلغاريا فعاليات شبه أسبوعية تضامنية مع فلسطين، رغم أن وسائل الإعلام المركزية في البلاد تتبنى نهجا مؤيدا لإسرائيل بشكل منهجي.
ففي الأحد الماضي، شهدت العاصمة صوفيا أكبر تظاهرة دعم للقضية الفلسطينية منذ سقوط النظام الشيوعي عام 1989، وقبل ذلك نُظّمت ورشة عمل مفتوحة لإعداد اللافتات الخاصة بالاحتجاج.
وفي مهرجان “أسبوع السينما الوثائقية” هذا العام سُلّط الضوء على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ كان من ضمن باقة الأفلام التي عرضت فيلم “ملفات بيبي”، وهو فيلم وثائقي يكشف تسجيلات وتحقيقات سرية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعائلته.
ومؤخرا، نُظّمت فعالية خيرية بعنوان “اركض من أجل فلسطين”، أطلقتها جمعية الفلسطينيين في بلغاريا، إلى جانب تنظيم أسواق خيرية بشكل متكرر لدعم عائلات غزة، والتعريف بالثقافة الفلسطينية من خلال تعليم الدبكة وفنون التطريز التقليدي.
وتثير مأساة غزة مشاعر قوية في المناطق ذات الأغلبية من المسلمين البلغار وذوي الأصول التركية، ولعلها المرة الأولى في التاريخ الحديث للبلاد التي ينظّم فيها السكان فعاليات تضامنية مع قضايا خارجية.
عندما ينتمي الإنسان إلى قضية عادلة، فذلك هو مصدر القوة.