كشفت تقارير صحفية دولية النقاب عن شهادات صادمة لعدد من الناجين من جحيم المعارك في السودان، مؤكدة قيام عناصر تابعة لقوات الدعم السريع بشن حملات اعتقال واسعة النطاق طالت المدنيين العزل في مدينة الفاشر. وأوضحت المصادر أن هؤلاء المدنيين تعرضوا لأصناف شتى من التعذيب الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى استخدامهم كأدوات لابتزاز عائلاتهم مادياً مقابل الإبقاء على حياتهم.
وأفادت المعلومات المستقاة من إفادات الضحايا وتقارير المنظمات الحقوقية بأن القوات المسيطرة ارتكبت سلسلة من الانتهاكات الجسيمة فور بسط نفوذها على الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور. وتضمنت هذه الممارسات عمليات اختطاف جماعية للمواطنين واحتجازهم كرهائن لطلب فدية، مع تنفيذ إعدامات ميدانية فورية بحق من تعجز عائلاتهم عن سداد المبالغ المطلوبة، وفي كثير من الأحيان يتم تنفيذ القتل بدم بارد أمام أنظار ذويهم لزيادة الرعب.
وبحسب الروايات الموثقة، فقد عاش المحتجزون ظروفاً مأساوية تضمنت التجويع المتعمد والإذلال والتعذيب الشديد. كما أُجبر الضحايا، تحت تهديد السلاح والقتل، على إجراء اتصالات هاتفية مع أقاربهم لاستجداء مبالغ مالية طائلة ثمناً لحريتهم، وفقاً لما نقلته الصحافة الأمريكية عن الوضع الميداني المتدهور.
وجاءت هذه الموجة من العنف المتصاعد عقب حصار خانق فُرض على المدينة لمدة قاربت العام ونصف العام. ومع انسحاب وحدات الجيش السوداني من المنطقة في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أطلقت قوات الدعم السريع العنان لحملات دهم واعتقال عشوائية لم تستثنِ أحداً، حيث شملت الرجال والنساء وحتى الأطفال، مما فاقم من الكارثة الإنسانية.
ورغم الصعوبات البالغة في حصر أعداد الضحايا وتوثيق كافة الجرائم نظراً لانقطاع شبكات الاتصال، إلا أن الشهادات التي خرجت من هناك ترسم صورة قاتمة ومشاهد تقشعر لها الأبدان. فقد تحدث شهود عيان عن حوادث دهس متعمد للمدنيين بواسطة المدرعات العسكرية، وعمليات تصفية جماعية تم توثيقها، فضلاً عن ترك الأطفال اليتامى يواجهون مصيرهم المجهول تائهين في الصحراء القاحلة بلا مأوى أو معيل.
وتندرج هذه الفظائع ضمن سياق الحرب الدامية المشتعلة منذ أبريل/نيسان 2023، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها تمثل أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم حالياً. وقد تسبب هذا النزاع في نزوح ما يقارب 12 مليون سوداني من ديارهم، بالتزامن مع سقوط أعداد ضخمة من الضحايا المدنيين بين قتيل وجريح.
سمعت أحد الحراس يقول: يجب أن تقتلوا نصفهم للضغط على البقية كي يدفعوا الفدية.. ومن بين 150 شخصاً حاولوا الفرار لم ينجُ سوى 30 فقط.
وفي سياق متصل، يرجح ناثانيال ريموند، الذي يدير مختبر البحوث الإنسانية في كلية ييل للصحة العامة، أن تكون حصيلة القتلى في مدينة الفاشر وحدها قد بلغت عشرات الآلاف على يد قوات الدعم السريع. وأشار الخبير إلى أن فريقه بصدد نشر تقرير مفصل خلال الأيام القادمة يوثق وجود ما لا يقل عن 140 موقعاً تحتوي على مقابر جماعية وتكدس للجثث، راصداً محاولات حثيثة لطمس معالم هذه المجازر وإخفاء الأدلة.
كما أماطت التقارير اللثام عن وجود “منظومة ابتزاز” تدار بشكل منهجي داخل المعتقلات، وتحديداً في مدينة نيالا، حيث يُزج بآلاف المدنيين في ظروف اعتقال لا إنسانية. ولا يُسمح لهؤلاء بالخروج إلا بعد تحويل فديات مالية ضخمة، في وقت تتزايد فيه حالات الوفاة بين المعتقلين نتيجة التعذيب الوحشي وانعدام الرعاية الصحية وتفشي الأمراض.
وأكدت جهات طبية وحقوقية أن حملات الاعتقال طالت شرائح واسعة شملت أطباء وسياسيين وصحفيين. وفي شهادة مروعة، روى أحد الكوادر الطبية -الذي فضل عدم ذكر اسمه خشية الملاحقة- أنه صمد في الفاشر طيلة فترة الحصار، وحين سقطت المدينة حاول الفرار مع مجموعة من 100 شخص، إلا أنهم وقعوا في الأسر سريعاً، وتمت تصفية حوالي 30 فرداً منهم فوراً في موقع الاعتقال.
وتابع الشاهد الطبي سرد تفاصيل محنته، مشيراً إلى أنه تم نقل الناجين في قافلة إلى مدينة “كتم”، حيث أُلقي بهم في منزل مهجور. وهناك، أُمروا تحت التهديد بالاتصال بذويهم، حيث قال له أحد الخاطفين بوضوح: “عليك إقناع أهلك بدفع 50 مليون جنيه سوداني، وإلا سيكون مصيرك الإعدام الفوري”.
ولجأ العامل الطبي إلى الاستنجاد بأصدقائه لعلمه بعجز عائلته عن تدبير هذا المبلغ الخرافي، ونجح الأصدقاء بعد مفاوضات مضنية في خفض المبلغ إلى 15 مليون جنيه (ما يعادل 25 ألف دولار)، ليتم إطلاق سراحه بعد الدفع. ونقل الناجي عبارات مرعبة سمعها من الحراس تحرض على القتل، حيث قال أحدهم: “اقتلوا نصفهم ليكون ذلك دافعاً للبقية للدفع”. وأكد شاهد آخر أن من بين 150 شخصاً حاولوا الهروب معه، لم ينجُ سوى 30 فقط، بينما قضى الباقون قتلاً بالرصاص أو دهساً أو قصفاً.
وعلى المستوى السياسي، سلطت هذه الجرائم الضوء على الصراع الإقليمي المحتدم حول السودان، وسط تبادل للاتهامات بشأن دعم أطراف النزاع، في حين وقفت العقوبات الدولية عاجزة عن لجم آلة القتل. وبينما تستمر المحاولات الدبلوماسية الخجولة لوقف الحرب، يرزح آلاف المدنيين تحت وطأة الاحتجاز والتهديد، مما يعكس عمق المأساة التي تعيشها دارفور والسودان بأكمله.












