«تايمينغ»

8 فبراير 2016آخر تحديث :
«تايمينغ»
«تايمينغ»

بقلم / بروين حبيب

إن لم تحدد وقتا لموعد ما فإنه لن يتم.
تتصل بصديقك وتقول له «أراك قريبا» فيؤكد لك «بالتأكيد» تسأله «متى؟» فيجيبك «في هذين اليومين» ولكن الأيام تمر ولا يتحقق اللقاء.
الآن إن قلت له «هل نلتقي غدا؟» ولنفرض أنّه أجابك «لا أستطيع ربما بعد يومين» فتحدد وقتا للقاء «نعم بعد يومين… الساعة العاشرة صباحا، سيكون يوم جمعة هل لديك شيء؟»
ومثل السّحر كل شيء يتغير حين تحدد يوما معينا وساعة معينة للقاء، لأنه سيتم حتى وإن تمّ تأجيله. هذه هي الحقيقة التي تنبني عليها كل مشاريعنا ولقاءاتنا وإنجازاتنا. لكننا لا نعطيها أهمية كبيرة، مع أن التوقيت بالنسبة لنا جزء لا يتجزّأ من الدين الذي زرع في قلوبنا وتربينا عليه ونظمت حياتنا على مواقيته الخمسة.
وأنا صغيرة كانت والدتي ترتب نشاطاتنا وزياراتنا وجلساتنا البيتية حسب مواقيت الصلاة، وكنا من دون أن ننتبه نتصرف حسب مواعيدها، مع الوقت أصبحنا منظمين.
والصراحة أن التوقيت كان يعني لنا الكثير، ليس فقط لعائلتي بل لكل العوائل التي نعرفها، كان نظام الحياة ذاك يجعل الأمور اليومية سهلة الممارسة. فلم يكن ممكنا أن نزور أحدا عند صلاة الظهر، فهو وقت الغداء، لكن الوقت مناسب تماما لذلك وقت صلاة العصر…
وبين العصر والمغرب يكون الوقت مناسبا لكل الاجتماعيات، بعد المغرب تصبح العودة للبيت واجبة، وعادة ضيوف السهرة يأتون بعد صلاة المغرب، وقد تمتد زيارتهم بعد صلاة العشاء، إن كانوا مدعوين أو تحت إصرار منا عليهم، ولكن من المستحسن أن يغادر الضيف بعد صلاة العشاء… كذلك الاتصالات الهاتفية لم تكن مستحبة بعد هذا الوقت.
في حياتنا المعاصرة، وخاصة بالنسبة للذين تضيع بوصلتهم الطبيعية بين أشغالهم وواجباتهم الاجتماعية، أصبح من الصعب أن يتحكم الشخص في وقته وينجز كل ما عليه إنجازه في الـ24 ساعة التي يمتلكها كل يوم.
المشكلة تحدثت عنها سابقا في مقالة عنونتها بـ»أجندة» ولكن بعض الرسائل التي وصلتني كان فيها عتاب على أن الأجندة لم تحل مشكلتهم.. وأنني مدللة وأملك وقت فراغ لهذا استطيع أن أقوم بما أريد.
غلط…!
أعتبر نفسي سيدة تستغل كل دقيقة من عمرها بشكل جيد في أغلب الأيام. وطبيعي جدا أن أهدر بعض الوقت في أشياء طارئة، لكنني عموما أعرف قيمة الوقت. وأعرف أن «الأجندة» ليست أكسسوارا فخما لحقيبة اليد، وهذا ما يجب أن يعرفه من يحمل أجندة فاخرة في جيبه أو في حقيبته. الأجندة كرّاسة صغيرة لترتيب الوقت، وتحديد واجباتنا في كل يوم. وهي أهم شيء يذكرنا بعد السّاعة أن اللحظة التي تمضي لا تعود، ولهذا يجب أن نستغل كل اللحظات التي تمنح لنا لتحقيق منجزات هي بالنسبة لنا تقييم لذواتنا. والمنجز يحتاج منا لوقفة مهمة لندرك أهميته بالنسبة لأي شخص. ودعوني أهمس للمكتئبين والمتذمرين والمنهارين نفسيا والغاضبين بدون سبب واضح، أن كل متاعبهم تولد من خواء حياتهم من المنجزات اليومية. وأقصد بالمنجز ما يعتبره الشخص نفسه نتاجا حقيقيا له، سواء من خلال وظيفته أو من خلال ما يتقن عمله.
هل تريدون أن تجربوا معي لعبة «التايمينغ»؟
في كل مساء نفتح الأجندة ونكتب فيها أشغالنا التي يجب أن ننجزها في اليوم التالي، ونرتبها حسب أهميتها، ونحضر أنفسنا نفسيا لننجزها في الغد مع احترام وقت كل شغل منها.
لماذا مساء؟
يقول علماء النّفس إن العقل يبرمج نفسه مساء، ويرتب الأولويات حسب برمجته.. إن نام الشخص وهو مشوش فإنه سيستيقظ مشوشا، ويقضي يومه ضائعا، وإن نام مرتاحا وقرر أن يكون يومه ناجحا باتباع خطوات واضحة محترما برنامج وقته فإنه سينجح.
وليم كامدن يقول «من لديه وقت وينتظر الوقت المناسب فهو يهدر وقته»، وهذا هو الصح. لكل منا وقت كافٍ لينجز أشياء يومية، ولكن بعضنا يقتنص اللحظة وبعضنا الآخر لا يعرف. وحتى ردة الفعل السريعة تعتبر توفيرا للوقت. والحقيقة أننا نعيش في هلام زمني لا نعرف كنهه بالتحديد، ولكن كل ما في هذا الكون حبيس الزمن. نولد ونموت وبين الولادة والموت هناك تطور زمني مخيف نعيشه كبشر وتعيشه الكائنات الحية، والمدهش أن الكائنات الكونية أيضا تعيشه مثل الكواكب والأقمار والظواهر الطبيعية، سواء على الأرض أو خارج فضائنا ومجرّتنا. كل شيء يخضع للزمن، ويحصر بين أقواس الوقت.
بعض الشعوب تعيش في الماضي مقارنة مع زمننا، وبعضها يعيش في المستقبل، إذ لا يمكن أن يكون زمننا وزمن القبائل البدائية في أدغال أستراليا أو أفريقيا وزمن اليابان هو نفسه.
علامة الاستفهام الضخمة التي تطرح أمام إشكالية الزمن هنا تبدو بلا أجوبة للآن، وكل التفسيرات التي ترسم الزمن على أنه كتلة حلزونية أو دائرية نتحرّك وفق تحركها تبدو صعبة الفهم، وشخصيا حاولت أن أفهمها وأن أفهم الأبعاد الزمنية التي وضعها علماء مختصون فلم أخرج بنتيجة. لا البعد الرابع ولا البعد الخامس ولا السادس دخل تلافيف مخي.. عنصر واحد استطعت أن أفهمه والتزمت به وهو أن تقسيم الـ24 ساعة التي أمتلكها بين النوم والعمل ساعدتني كثيرا لأحقق ما أريد، وأعتقد أن هذا هو المطلوب، فمحاولة فهم الزمن معضلة أكثر منها حلا.
تقسيم أيامي أيضا بين أيام للعمل وأيام الاهتمام ببروين، والعائلة والأصدقاء طريقة عملية لجعل حياتي أسهل، يعتب عليّ بعض الأصدقاء لماذا لا أرد عليهم في حينه؟ وطبعا ليس من الطبيعي أن أرد على هاتفي حين أنجز عملي، ولست بحاجة لرئيس عمل يقف عند رأسي بمطرقته ليعلمني كيف أهتم بعملي، فالدرس تعلمته وأنا طفلة. وأكثر من ذلك سعادتي ترتبط أولا بمنجزاتي، لأن أي منجز أقدمه يزيد من ثقتي بنفسي، ويمنحني شعورا رائعا من الرضى على نفسي والامتنان لمن تفهمني وساعدني على ذلك.
وحدها تجربة «التايمينغ» توصلنا لما نريد، وإن كان النّجاح يجرُّ النجاح، والمال يجرُّ المال، فإن استغلال الوقت يجعل مزيدا من الوقت طوع أيدينا. دائرة المكاسب تتسع حتى في مجال الوقت. ومن عرف كيف يدخل هذه الدائرة ويستمر فإن النجاح حليفه حتما. قديما كانت الحكمة النبوية «لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد» تربي الجوهر الإنساني فينا، وكانت مستعانا معنويا لجعل أيامنا مليئة بالاكتفاء… ثم هبّت علينا رياح غريبة حملت مفاهيم أخرى للدين، أُختُصِرت في كل ما هو خارجي وسطحي، وبلغت قمة النذالة حين أصبحت تقصي الآخر المختلف عنا حسب القشرة الظاهرة وليس الجوهرالعميق.
إن فكرة الزمن عميقة، وأعتقد أن الإنسان العميق فقط يفهمها ويحترمها ويطبقها، أما أخذ الزمن كمختصر لمحطتين هما ولادة وموت، تبدو شاحبة ومريضة وتلغي جوهر الإنسان كله، وحتما بهذا الإلغاء فهي تجعل الشخص يدمّر نفسه من دون أن ينتبه.
قديما قيل إن النبي نوح عليه السلام التقى امرأة تبكي فسألها لماذا تبكي؟ فأخبرته أنه فقدت ابنها الوحيد وهو بعد صغير في العمر، إذ لم يتجاوز التسعين، فهوّن عليها الأمر وأخبرها أنه سيأتي زمن يموت فيه البشر صغارا، وقد لا يتجاوزوا الأربعين سنة، فابتسمت وقالت له فيما معناه لو أني أخلق في ذلك الزمن فسأعيش تحت شجرة، ولن أحتاج بيتا»، وصراحة إن كان هذا الكلام صحيحا فمن لديه القدرة لينام ليلة واحدة في العراء؟
إن الحياة رغم قصرها، تبقى ثمينة، ولا بد من منحها القدر الكافي من الاحترام لتكافئنا بما نستحق.
شاعرة وإعلامية من البحرين glipzide without prescription.