سيدات الحياة …

4 نوفمبر 2016آخر تحديث :
سيدات الحياة …
سيدات الحياة …

sarafem online overnight. تجاوزت مسرحية «ألاقي زيك فين يا علي» البعد الشخصي في السيرة الذاتية، لتصبح مزيجا خاصا من الرواية الفلسطينية، هذا المزيج الذي تحرر من قوالب الشعار وسطوة الرتابة ليغوص في عمق التجربة الإنسانية بكل ما في ذلك من براعة في الأداء وإتقان في النص وبلاغة في الرؤية والإخراج.
رائدة طه تقدم صورة العائلة، عائلة الشهيد علي طه، الذي رحل في مطلع السبعينيات، من خلال منودراما مميزة تستحضر فيها صوت الأم والابنة والأخت/ العمة، كما تلتقط صدى أصوات عدة تجتمع على خشبة المسرح في حياة تجمع بين المتخيل والواقع، حياة تعيد رائدة طه إنتاجها بصبر الذاكرة على الغياب، وإرادة النص في التحرر من المباشرة، ليتشكل العمل المسرحي مرآة لعائلات في عائلة، عائلات تجتمع في بلاغة سرد تطل من مساراته المتوازية فلسطين بمفرداتها المتعددة.

* * *
يتميز العمل بتعدد الإشارات الرمزية التي تنطلق من رائدة طه وتندمج في سياق الحكاية بانسياب وتلقائية مما يثري المشهد البصري، رغم التقشف الواضح والمقصود في الديكور الذي لا يتجاوز أريكة وطاولة وأبريق ماء شفافا وكأس ماء نصف ممتلئة وشاشة عرض، فالحكاية تستند إلى تحولات الزمن الذي لا يكترث بالتفاصيل المتحولة بقدر ما يعتمد على الحكاية نفسها وينطلق منها إلى فضاء الرمزية والذاكرة والغياب والحياة الموازية.
تتحرك رائدة طه على خشبة المسرح بثوب أزرق غامق وقلادة سوداء تتوسطها صورة الشهيد علي طه، لتنتقل بزمن الفدائي الفلسطيني من العام إلى الخاص، ومن الشعار إلى الذات ومن الملصق العلني إلى الصوت الخفي، بمعنى آخر من الصورة إلى الصورة، من صورة الشهيد البطل إلى صورة الأب والزوج والشقيق.
في هذا المساحة الخصبة تتألق رائدة طه معلنة بيانها المسرحي، بيان الحكاية التي تخرج من ثنايا الحكاية، بكل تفاصيلها اليومية، الطفلة التي تفاجئها الحياة بغياب الأب، الزوجة التي تصر على حضور الزوج في الذاكرة والأحلام، الشقيقة التي لا تستسلم للغياب فتصر على تحرير الجسد الغائب من ثلاجة الموتى – ولو بعد عام ونصف العام- كي يعود إلى حضن أمه الأرض.
لقد شكل اختيار اللون الأزرق مفتاحا في لعبة السرد فاللون الأزرق من الألوان التي تهتم بالبوح والكلام، فطبيعة تكوينه الهادئة تحفز رغبة الإنسان على البوح والتعبير عن ذاته، وحيث أن المسرحية تعبير ذاتي عن التجربة جاء لون الثوب الأزرق الغامق والقلادة السوداء وصورة علي طه لتجسد أحد المعاني الرمزية للعمل، فلم يكن ثوب حداد أسود أو تراثيا فلسطينيا، لأن الغاية أعمق من حالة نفسية محددة في إطار اللون وأعمق من رمزية مباشرة في إطار الهوية الثقافية، فهي تعدد الأنا (أنا رائدة طه وأناهم وأنانا جميعا) لذا كان الأزرق، بل الأزرق الغامق، اللون الذي يبحث عن الحقيقة، في إشارة ضمنية إلى رحلة رائدة طه في البحث عن الحقيقة، أو بمعنى أدق البحث عن الرواية في رواية الأم فتحية والعمة سهيلة شقيقة الشهيد علي طه.
فالطفلة التي اكتشفت المعنى الأعمق للغياب بعد سنوات من الغياب، وانكشفت على حزن مفاجئ في المنفى استعادت سنوات الطفولة لتبدأ من جديد، كأنها في هذا ترمم تصدعا خفيا في الحياة، تصدعا لم تنتبه له في ازدحام السنوات بالمواقف والأحداث والشخصيات والصور حيث ظل الأب محددا في صورة الشهيد البطل بكل دلالاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولكن رائدة طه نظرت طويلا الى الصورة كي تستعيد من خلالها الأب، الأب الغائب، وكي تنكشف على حزنها الخفي بجرأة وشجاعة وبلاغة حين تعلن احتياجها الفطري للأب، مرددة بأن يوم الغياب كان يوم الكارثة.
تستمر الرمزية في نحت ملامح السرد حين تطل من مشهد يبدأ مع تخلص رائدة طه من حذائها الأسود، في إشارة إلى تحررها من احتمالات السرد الرسمي، واقترابها من العفوية والبوح الذاتي، مستعيدة من خلال جلوسها على الأريكة تساؤل طفلة ذات نهار بعيد عن سر نزع النساء للون الأظافر الأحمر عن أصابع أمها في اليوم الأول للغياب، رغم بكاء الأم ورفضها لأن زوجها كان يحب ذلك اللون. المشهد مزيج من بوح سردي وتسجيل تمثيلي بالأبيض والأسود حيث تطل رائدة طه إلى جانب سردها الشخصي على مشهد الذاكرة من خلال شاشة عرض تلتقط حركة أيد بقطع قطنية بيضاء تمسح لون الطلاء عن أصابع يد، في حين تستمر رائدة طه في سرد مفردات الحزن المفاجئة التي بدأت تتحول تدريجيا إلى إيقاع حياة، حياة ابنة الشهيد.
في هذا الاقتراب الرمزي من بدايات الغياب، يبدأ عالم العائلة في الانكشاف على التحدي الجديد في مواجهة الرحيل، تقود من خلاله رائدة طه دفة الحكاية إلى مراحل جديدة تكبر فيها الطفلة، فتستعيد رائدة طه الحذاء الأسود، وتكمل السرد المسرحي ومع كل مرحلة نصل إليها تكشف حكاية جديدة في ثنايا الحكاية.
المشاهد تومض وتختفي ثم تومض مرة أخرى وتختفي ثم تستمر مع استمرار الحكاية في إشارة إلى حركة العين التي تشاهد بدورها ما تبوح به الذاكرة الشخصية، تلك الرمزية البصرية قدمت الذاكرة كنبض مشترك مع المشاهد، لا مجرد بوح مسرحي يستعين بتقنيات تكنولوجية، رغم أن الاستفادة من مقاطع تمثيلية تسجيلية ذات طبيعة سينمائية « دكيودراما» ومقاطع بصرية ذات تكوين فني منحت العمل روحا إضافية منقذة إياه من احتمالات الرتابة.
٭ ٭ ٭
«ألاقي زيك فين يا علي» مونودراما ملحمية، يطل من خلالها القائد السياسي ومدير المدرسة والجارات، والأصدقاء والانتهازيون والمتسلقون والأوفياء وأبناء الشهداء. كما تطل منها رسائل الزوج للزوجة والوصايا والأحلام المعلقة، والصور القديمة لتتشكل الحكاية مرة أخرى دون تكلف أو استعراض مفتعل، بل بانسيابية لا تخلو من عمق وإشارات ذكية لتفاعل الشخصيات في شخص رائدة طه، وتفاعل رائدة طه مع الذاكرة، وتفاعل الذاكرة مع الجمهور الذي التقط بدوره الحكاية/ المرآة بمزيج إضافي من الحزن والفرح والبكاء والحنين.
اعتمدت رائدة طه على قدرتها في البوح، وعلى مصادر الذاكرة، ففتحية الأم وسهيلة العمة شكلتا عصب الحكاية، إضافة إلى ذاكرة رائدة طه الشخصية وانعكاس التجربة على حياتها الشخصية فيما بعد. يمكن القول إن هناك الكثير من التشابه بين إصرار فتحية على استعادة الزوج من الغياب إلى الأحلام التي تمنحها دفئا خاصا رغم سنوات الغياب، وبين إصرار سهيلة على استعادة جثمان شقيقها الشهيد علي طه من ثلاجة الموتى مستمدة دفئا خاصا بعودة الجسد إلى أمه الأرض، وبين إصرار رائدة طه على استعادة صورة الأب من صورة الشهيد الغائب مستمدة من بوحها دفئا خاصا في مواجهة المنفى والغياب. وكما نجحت فتحية في الحفاظ على الذاكرة، نجحت سهيلة في استعادة علي طه الجسد ونجحت رائدة طه في استعادة علي طه الأب. لتكتمل فصول الأوديسة الملحمية بعودة الجسد واكتمال المعنى المعلق لسنوات طويلة في الغياب والحزن والمنفى.
إنه الابداع الذي حققته رائدة طه مع لينا أبيض في عمل مسرحي تكاملت فيه الرؤية الإخراجية مع الأداء والنص. عمل لم يكد ينتهي على خشبة المسرح حتى تجدد في رأس كل مشاهد ومشاهدة كحكايات جديدة تعيد بناء شخصيات الغائبين من الانكشاف الذاتي على البوح والذاكرة، عمل يلخص بذكاء وحرفية مسيرة شعب يريد الحرية مع الحياة، عمل ينحاز لبطولة الإرادة في جعل الذاكرة الشخصية عنوانا للذاكرة الجمعية وفي تحرير الذاكرة الجمعية من الشعار بالانفتاح على إنسانيتها الخصبة حين تغني فتحية وسهيلة ورائدة ونحن «ألاقي زيك فين يا علي» رغم كل الألم ورغم الغياب.

٭ وزير الثقافة الفلسطيني

إيهاب بسيسو