بقلم: الدكتور سعيد صبري*
ًًشكّل الفيروس تحديا قويا لمدى تماسك المؤسسات الصحيَّة، لاسيَّما أن كابوس هذه الأزمة قد عرّض المجال الصحي العالمي لهزة عنيفة، وما يزيد الأمر سوءا هو أن الدول ذات الانظمة الصحيَّة القويَّة، تشهد ارتفاعا مقلقا في عدد حالات الاصابة وفي عدد الوفيات.
ولقد تعرضت المراكز الصحيَّة العربيَّة والغربيَّة على حٍّد سواء لفترات طويلة من الزمن للتقشف المقنَّن، فما كان من فيروس كورونا إلا أن يميط اللثام عن عيوب كبيرة في هيكليَّة نظام الرعاية الصحيَّة، ويكشف عن هشاشة الأنظمة السياسيَّة والصحيَّة، وهذا الأمر لا تقل خطورته عن خطورة الوباء نفسه، ليعود الهاجس العالمي حول مدى قوة النظام الصحي العالمي، وليطل السؤال: هل نحن مستعدون للأزمات العارضة؟ وهل منظومة القطاع الصحي والاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني جاهزه او متطورة؟ وهل سننجح في تجاوز الأزمة؟
من الواضح جدا أن التعايش مع فيروس كورونا هو قدر العالم، ولمدة غير محّددة، فمعظم العلماء والأطباء يتحدثون عن فترة تصل إلى عام كامل او اكثر، قبل أن نحصل على علاج فاعل ومضمون يشفي المصابين بالمرض، أو لقاح معتمد يقضي على الفيروس.
لذلك فالدراسات الحديثة، وأبرزها تقرير جامعة هارفارد الذي تم نشره حديثا وقد تحدثت عنه سابقا بمقالي بالأسبوع الماضي، تخلص إلى صعوبة إغلاق المدن لهذه الفترة الزمنية الطويلة، وإلا سيكون الضرر على البشر من الإغلاق، أكثر بكثير من ضرر المرض نفسه.
أن هذه وجهات نظر علمية، وجميعها قائم على دراسات مختلفة ومركزة، وابحاث مختلفة تمت بعناية شديدة تاكد انه ، بعض علماء العالم منقسمون بين انفسهم إلى فريقين كما هو واضح ، فريق مع الإغالق التام للمدن لمنع انتشار الفيروس، وفريق مع معاودة الأنشطة على مراحل، مع التشديد على اتخاذ الإجراءات والاحتياطات اللازمة، وإبداء مرونة في الإغلاق، ومعاودة النشاط، وفقا لأعداد المصابين، ومدى قدرة النظام الطبي على الاحتمال وهذا من نشهده على الساحتين الحكوميه الفلسطينينه والقطاع الخاص الفلسطيني.
فلسطينينا باتت نظرية العرض والطلب نظرية متاكلة ومتناثرة ومتأثرة بعامل “ديمنوز افيكت “، فالمواطن ليس له المقدره على الشراء، ولا الشركات الصغيرة لديها المقدرة على دفع التزاماتها، وبالتالي الحلقة اصبحت تتهاوى تدريجيا اذا لم تتدخل الحكومة والبدء بعملية ضخ سيولة في السوق الفلسطيني وذلك عن طريق فتح مجال لشراكات استراتيجية تكاملية بين الشركات الصغيرة والمتوسطة.
التوجيهات الرسمية من خلال البيانات الصحفية (أون لاين) او من خلال صفحات التواصل الاجتماعي لم تعد تخدم احتياج المواطن ولم تعد تتناسب مع الاحتياجات الاساسية لفئات الشعب: للعامل، والمواطن، ورجل الاعمال وحتى للموظف، فبينما تقوم الحكومة بالعمل على ابقاء موظفي القطاع العام بمنازلهم ودفع رواتبهم الشهرية يبقى العبء الاكبر على القطاع الخاص الذي لا يعمل إلا بمحدودية الايام والاجراءات والزمان وتعليمات “اون لاين” ، وفي النهاية مطالب بتسديد فاتورة العمال وفاتورة الشيكات المتراكمة.
ويشير مركز الاحصاء المركزي الفلسطينيي الى ان الاقتصاد الفلسطيني سيتكبد خسائر تقدر بـ 2.5 مليار دولار أمريكي في حال استمرار جائحة كورونا لمدة ثلاثة أشهر، والعودة التدريجية للوضع ما قبل الأزمة، حيث من المتوقع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 14%في عام 2020 مقارنة مع عام 2019.
هذه الكلمات، مقدمة لتسليط الضوء على معاناة المواطن الفلسطيني “العامل والاستاذ والطبيب” جراء الاوضاع الحالية، فقد باتوا ”يئنون“ أكثر من ذي قبل.. فهناك قطاعات، تشغل مئات الآلاف، ”عُطلت“ بالكامل، ما قد يُنذر بأن يُقدم أصحاب تلك القطاعات على ”تسريح“ موظفين أو الاستغناء عنهم، بالاضافة إلى مئات الآلاف ممن يعملون بالمياومة، أي يعيشون كل يوم بيوم.
الحكومة، بكل ما تملك من قوة مادية وأدوات تستطيع من خلالها إقرار قوانين تعود بالنفع عليها، لم تستطع التحمل أكثر من شهر واحد، وبدأت بالاقتطاعات وإلغاء الزيادات على رواتب الموظفين، وكذلك إنشاء صناديق تبرعات والدعوة في كل وقت إلى التبرع لهذه الصناديق، فما بالك بالمواطن ذي الخيارات المحدودة، خصوصا ذلك الذي لا يملك دخلاً سوى راتبه الذي يتقاضاه من منشأته التي يعمل بها.
عندما تدفع أسرة من الطبقة المتوسطة، ليست معوزة ولا فقيرة، بأحد أطفالها إلى بيع معقمات ومناديل في الاحياء السكنية أو على الاشارات الضوئية، فهذا دليل ساطع على أن الأسرة الفلسطينينة، لم يعد بمقدورها تحمل الوضع الراهن.. ليس في الأمر مبالغة، عند القول بضرورة عودة المؤسسات والدوائر، حكومية كانت أو خاصة، إلى عملها، مع ضرورة التأكيد على تأمين وسائل الصحة والسلامة المهنية، فالأوضاع المادية لأغلبية الشعب الفلسطيني، باتت سيئة، وإذا كان المواطن باستطاعته أن يتحمل تبعات الشهرين الحالي والمقبل، فحتماً لن يستطيع أن يتحمل يوماً واحداً بعد ذلك.
لن يستطيع صندوق “وقفة عز” و لا كل الصناديق المتوفرة ان يغطى التزامات المحتاجين الذين يتزايدون يوميا، فقد تشير الاحصاءات الحديثة ان 14% هي الزيادة بنسبة المحتاجين. وخصوصا اننا نتعامل مع اجراءات لا سقف زمني لها مما قد يزيد الوضع صعوبة وتعقيدا.
اليوم، كل القطاعات تطالب بالسماح لها بالعودة إلى العمل من خلال “البيان الصادر عن المجلس التنسيقي لمؤسسات القطاع الخاص” ، ولها الحق في ذلك بعد أن عانت الأمرّين وتكبدت خسائر فادحةً كونها لم تمارس أي عمل يِدر عليها مدخولات مالية طوال أكثر من شهر، وكل ذلك بسبب أزمة كورونا، فهي اليوم على مفترق طُرق، ليست وحدها بل الاقتصاد الفلسطيني بجميع مكوناته يمر في مرحلة خطيرة، ويحتاج إلى تحريك عجلة الإنتاج لكي يبدأ بمرحلة التعافي تدريجيا. كما نطالب الحكومة العمل على تشكيل لجنة اقتصادية متخصصة تراجع الإجراءات المطلوبة لإعاده القطاعات الاقتصادية للعمل، وايضا العمل على تفعيل الصندوق الخاص بدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
كما اود بنفس السياق ان اقترح على سلطة النقد العمل وبشكل حثيث على ايجاد مخرج عادل للشركات الريادية والصغيرة بموضوع “الشيكات والالتزامات المالية” يضمن بقائها في ظل الظروف الصعبة واعطاءها فترة سماح لمدة 3 اشهر لتصويب اوضاعها المالية من تاريخ اعادة الحياة الاقتصادية، فلا يعقل ان يتساوى اصحاب المصالح العاملة واصحاب المصالح المغلقة بنظام واحد عادل.
ويجب التأكيد هنا، على ضرورة استمرار إغلاق المدارس بالذات، ومنع إقامة التجمعات، والدعوات بمختلف أشكالها، سواء كان ذلك خلال شهر رمضان المبارك، أو حتى في الاشهر المقبلة.
كل يوم يمضي تتفاقم التحديات امام الحكومة والناس، وكلما بادرت الحكومة بابتكار حلول عملية تُسهل الحياة، كلما زادت فرص النجاة من الأزمة، وتعافي وصمود الوطن ، ونأمل مع نهاية رمضان، وبعد العيد أن تكون الحياة في فلسطين قد عادت ونحتفي بانتصار إنساني على الوباء.
* مستشار اقتصادي – شريك وممثل لصندوق فاستر كابتل –دبي