بقلم: سليمان أبو ارشيد
بعد 72 عامًا من إقامتها على أنقاض شعبنا الفلسطيني، لا يوجد ما يُعكّر صفو بقاء إسرائيل وتمدُّدها في المنطقة العربية، بعد أن احتلّت كامل فلسطين وبسطت هيمنتها كقوة إقليمية راسخة في المحيط. تسنّى ذلك بعد أن فشل العرب في حرب1967 بإصلاح خطأ عام 1948، وفشل الفلسطينيون في إصلاح خطأ العرب الذي قاد إلى النكبة والنكسة.
وباستثناء ما يسميه الإسرائيليون تشاؤمَ العقد الثامن الذي دخلت فيه “دولة اليهود الثالثة”، والنابع من كون الدولتين اليهوديتين السابقتين اللتين جرى تأسيسهما في فلسطين، وفق الرواية اليهودية؛ “مملكة داوود” ومملكة “الحشمونائيم”، واللتين لم تستطيعا تجاوز العقد الثامن من عمريهما، إذ صمدت الأولى 76 عاما والثانية 77 عاما، فباستثناء ذلك؛ فإن كل شيء “جيد وجميل” كما يقول الإسرائيليون والقدر والعالم يضحكان لإسرائيل التي تشهد، بالذات في هذه الفترة، احتضانا دوليا غير مسبوق من الغرب إلى أقصى الشرق، فيما يتجلى فيها اليمين الديني الاستيطاني المسيطر على مقاليد الحكم بأبشع صوره.
ويبدو العالم وكأنه قد نفذ صبره بعد أن أعطى للعرب ومن ثم للفلسطينيين فرصة سبعة عقود لإنجاز المهمة التي وعدوا أنفسهم وشعوبهم بها ولم يحصدوا سوى الفشل تلو الفشل، وحتى الانتصار العربي العظيم في “أكتوبر” نجحوا في تحويله إلى معاهدة ذلٍّ وعارٍ في اتفاقيات “كامب ديفيد” التي أخرجت مصر وعبّدت الطريق لخروج العرب قاطبة من المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وكذلك جرى تحويل إنجاز الانتفاضة الفلسطينية المجيدة إلى اتفاقية تنسيق أمني مع الاحتلال في “أوسلو” التي أخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من الصراع العنيف مع إسرائيل، وعزلت قطاع غزة وقطعت الضفة الغربية إلى كانتونات.
ومثلما تم الانفراد بما تبقى من جيوب مقاومة رسمية عربية؛ العراق ولاحقا سورية ولبنان، يجري الانفراد بجيوب المقاومة الشعبية الفلسطينية من حماس وجهاد وشعبية في قطاع غزة المحاصر على طريق تصفيتها، وكما جرى الدفع بشركاء إسرائيل العرب في معاهدات السلام إلى الحائط وتكسير عظم هياكلهم الوطنية، جرى انتزاع الإرادة الوطنية للقيادة الفلسطينية التاريخية وتحويلها إلى تابعٍ لا حولَ له ولا قوة.
في الذكرى الـ72 للنكبة يعلن بنيامين نتنياهو عن تشكيل حكومته الخامسة، وحكومة إسرائيل الـ35، بعد ثلاث معارك انتخابية، غابت عنها بالكامل القضية الفلسطينية كمحور نقاش وصراع داخلي، وأسفرت بالتالي عن حكومة وحدة صهيونية واسعة تمتد من “البيت اليهودي” وحتى حزب العمل المنقرض بجناحه الحمائميّ. ستكون مهمتها الأولى ضم الأغوار وفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات تنفيذا لبنود “صفقة القرن” التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية.
لقد غطّى دخان المعارك الانتخابية الثلاث التي تمحورت حول شخص نتنياهو وفساد إدارته على الإجماع السائد إسرائيليا، منذ عقدين من الزمن، على تحييد القضية الفلسطينية والتعامل مع مركباتها كشأن داخلي إسرائيلي، والذي تعزز في السنوات الأخيرة بسبب تآكُل عوامل قوة هذه القضية الذاتية والعربية والدولية في ضوء الانقسام الداخلي الفلسطيني وتعمّقه السياسي والجغرافي وانشغال العالم العربي بربيع ثوراته المتعثرة وسياسات حرف بوصلته نحو ما يُسمى بالخطر الإيراني، الذي يجري تحته تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وبموازاة تنامي المدّ اليميني عالميا وصعوده إلى سدة الحكم في أميركا ودول هامة في شرق وغرب أوروبا.
لقد سقط شعار إسقاط نتنياهو الذي استُخدِم لتبرير التوصية على الجنرال، بيني غانتس بعد إسقاط ثوابت وطنية ترسخت على مدى عقود من العمل السياسي العربي الفلسطيني داخل إسرائيل، أهمها التمييز القاطع بين الكنيست كبرلمان، وجرى استخدامه بجدارة أو غير جدارة كمنبر لرفع صوتنا المناهض للاحتلال والقمع والتمييز العنصري، وبين الحكومة كسلطة تنفيذية تقود وتنفذ سياسات الاحتلال والقمع والتمييز العنصري. لقد ضاعت في هذا المعمعان الخطوط الحمراء بين ثنايا أوهام شعارات المشاركة والتأثير، وهي مرادفات مخففة للاندماج والأسْرَلة، حتى أن البعض شطَح به الخيال إلى إجراء مقارنات بينه وبين وزيرة الثقافة الإسرائيلية من باب القديم والجديد.
وبدون شك فإن هذا “الوضع القيادي”، غير قادر على رسم الخطوط الحمراء للفنانين والمبدعين وغيرهم في التعامل مع الواقع الإشكالي الذي نعيش فيه، وضبط معايير وقواعد المشاركة أو عدمها في أعمال إسرائيلية، بل إن هذا الواقع أعجز من أن يهاجم أو ينتقد من يقوم بإيقاد شعلة استقلال إسرائيل في ذكرى نكبة شعبنا، لأن تلك القيادة أضاعت هي بذاتها الخطوط الحمراء وباتت جزءًا من الفوضى العارمة.
عن “عرب ٤٨”