بقلم: هاني المصري
شهدنا بعد القرار الفلسطيني بالتحلل من الاتفاقيات حيرة وغموضًا وتفسيرات متباينة وقلقًا شديدًا من القادم والمستقبل .
فمن جهة هناك غموض بالقرار أدى إلى تفسيرات متباينة، فأن تكون المنظمة في “حِلّ” من الاتفاقيات، فهذا يعني عند فريق إلغاؤها؛ وعند فريق ثانٍ مجرد ردة فعل على تحلل الحكومات الإسرائيلية من الاتفاقيات، وبالتالي إذا عدتم عدنا؛ وعند فريق ثالث أن القرار ردة فعل على مخطط الضم، وإذا جمّد يتم التراجع عنه؛ وعند فريق رابع أن القرار مقدمة لإلغاء الاتفاقيات، وبداية لشق مسار جديد مختلف جوهريًا عن المسار الذي سارت فيه المنظمة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.
ومن جهة أخرى، تجاوزت دولة الاحتلال الاتفاقيات منذ زمن بعيد، وتستعد لبداية مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الصهيونية بضم أجزاء من الضفة على طريق ضمها كلها فيما بعد، وبالتالي لن تعود إلى الالتزام بالاتفاقيات، ولن تتراجع عن مخطط الضم، مع إمكانية التلاعب به من خلال التمييز المضلل بين إعلان السيادة أو فرض القوانين أو إعلان الضم القانوني.
في هذا السياق، يريد الاحتلال من السلطة أن تستكمل تحوّلها إلى سلطة خدمية أمنية، مثلما تحوّلت من سلطة حكم ذاتي واسع إلى محدود، لتكون بلا دور سياسي، وأن تقبل بأن أي تفاوض مستقبلي – كما أعلن نتنياهو وتضمنته رؤية ترامب – على أساس الإقرار بـ”يهودية إسرائيل”، وعدم وضع قضية اللاجئين على طاولة المفاوضات، والاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وعدم صرف رواتب الأسرى وعائلات الشهداء، والموافقة على السيطرة الأمنية الإسرائيلية من النهر إلى البحر.
بغض النظر عن التباينات في تفسير القرار الفلسطيني، وهل هو إلغاء للاتفاقيات أم تحلل منها فقط وغيرها، فإن القيادة باستثناء وقف التنسيق الأمني مع الالتزام بمكافحة الإرهاب، لم تفسّر قرارها، ولم توضح الإجراءات والترتيبات المترتبة عليه في اليوم التالي، خصوصًا بعد قيام الاحتلال بوقف التنسيق المدني في خطوة يبدو أنها فاجأت الكثير من النخبة السياسية، التي بنت حساباتها على أن السلطة مصلحة إسرائيلية فلسطينية لا يمكن التفريط بها، متجاهلة أن إسرائيل ليست جمعية خيرية، وتتعامل مع السلطة كصفقة واحدة متكاملة، لا يمكن إنهاء قسم منها وترك الباقي يعمل كالمعتاد. وإذا لم تقدم السلطة البضاعة، يصار إلى فك السلطة وتغييرها وتركيبها بسلطة مطواعة كلها.
إن وقف التنسيق المدني الذي لم تكن السلطة جاهزة له يسبب قلقًا كبيرًا للجميع، فالعلاقات بين سلطات الاحتلال وأجهزة السلطة ووزاراتها كثيرة ومتشعبة جدًا وعميقة للغاية، ووقفها يعني أضرارًا كبيرة بمصالح الناس وحياتهم بحكم عدم بناء البدائل بوقت مبكر، فكيف ستصدر تصاريح تنقل الأفراد والعمل، ونقل البضائع واستقرارها. وهل ستستلم السلطة أموال المقاصة أم لا؟ وهل سيتم التنسيق مع السلطة عند اقتحام دوريات الاحتلال للمدن والبلدات أم لا؟ وهل سيلزم أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية مقراتهم وبيوتهم من دون تنسيق، أم يقوموا بواجبهم بالدفاع عن أهلهم، وهذا سيعرضهم لاشتباكات عسكرية غير متكافئة؟ وماذا عن التنسيق عند حدوث حوادث السير في مناطق (ب) و(ج)، فهل سيتم التنسيق أم لا، وكذلك نقل المرضى، وخلاف ذلك من مسائل لا تعد ولا تحصى.
لم تقدم القيادة الأجوبة المطلوبة، واختارت الانتظار والرهان على التدخلات الدولية، واعتمدت بأن الصليب الأحمر وبقية المؤسسات الدولية يمكن أن تقوم بالتنسيق إلى أن تنتهي الأزمة، وما العمل فيما إذا استمرت الأزمة، فهذا يعني فراغًا سيملأه الآخرون. فالأمم المتحدة لن تكون قادرة ولا مرغوب من الاحتلال أن تواصل القيام بمهام السلطة، وإذا عادت تحت وطأة الحاجة السياسية والحياتية والأمنية من دون تراجع الاحتلال عن مخطط الضم، فهذا يعني أنها مستعدة لقبول الأمر الواقع والتعايش معه، وهذا يحوّلها تدريجيًا إلى سلطة مطواعة بالكامل تحقق “السلام الاقتصادي”، وإذا لم توافق فهذا يعني أن السلطة ستنهار تدريجيًا رغم أن الأطراف المعنية كلها لا تريد حلها.
وما دفع دولة الاحتلال إلى اتخاذ موقف متشدد من قرار التحلل؛ أنها تدرك أن المنظمة من الصعب عليها الاكتفاء بهذا القرار إذا مضى نتنياهو في تنفيذ تهديده بضم الغور والمستوطنات في الموعد المحدد. وهو سيبدأ على الأرجح بتنفيذه لأنه يحتاج إليه سياسيًا وشخصيًا في ظل الاتهامات الموجهة إليه، مستغلًا الضعف والانقسام الفلسطيني والتفكك العربي وانشغال العالم بجائحة كورونا وتداعياتها، وبشؤون أخرى عديدة، ومع وجود رئيس أميركي ينافس المتطرفين الصهاينة في تطرفهم، وهو بحاجة إلى دعم الأنجليكانيين في وقت تتراجع فرصه بالفوز، ويتقدم عليه منافسه مرشح الحزب الديمقراطي الذي أعلن معارضة الضم، ما يعزز الإقدام عليه من تموز وحتى الانتخابات الرئاسية .
ستمضي حكومة نتنياهو بالضم على الأقل من خلال مرسوم تقرّه الحكومة أو رئيسها، أو إقرار قانون بالكنيست بخصوصه، وتنفيذه فورًا أو على دفعات في الوقت الملائم. فهكذا فعلت بموضوع رواتب الأسرى والشهداء، وغيره من المواضيع حين مررت قوانين بشأنها في الكنيست، وطبقتها في الوقت الذي رأته مناسبًا.
شاهدنا بازارًا سياسيًا بردود الفعل الفلسطينية احتوى كل الطروحات المتناقضة من كل حدب ولون، فهناك من دعا إلى تحويل السلطة إلى دولة تحت الاحتلال من غير أن يقول لنا كيف ستعمل السلطة/الدولة من دون رضى الاحتلال أو موافقته.
وهناك من دعا إلى حل السلطة ونقل مهماتها إلى المنظمة من دون أن يوضح كيف سيحدث ذلك ما دامت قيادة المنظمة ومقرّ دوائرها لا تبعد عن المقاطعة إلا أمتارًا قليلة، وكلتاهما تحت بسطار الاحتلال.
وهناك من دعا إلى إجراء الانتخابات بوصفها الحل السحري من دون أن يتوقف أمام مدى واقعية هذا الطرح، وهل ستكون انتخابات دولة، أم سلطة مصيرها الآن على كف عفريت، أم انتخابات مجلس وطني، وكلها لن تُجرى إلا بعد كفاح وبعد مرور زمن يجعل إجرائها ممكنًا.
وهناك من يطالب بحل السلطة، والتركيز على المنظمة حتى يتحمل الاحتلال المسؤولية عن احتلاله، ولم يتوقف أصحاب هذا الموقف أمام مصير 160 ألف موظف و75 ألف متقاعد، وغيرهم الكثير من المستفيدين من وجود السلطة. وهل حل السلطة ممكنًا، فلا سلطة تحل نفسها، وإذا حلت أو انهارت، فهل سيعود الاحتلال المباشر أم سيعمل على تشكيل سلطة أو سلطات بديلة عنها.
وهناك من دعا إلى التخلي عن برنامج الدولة الفلسطينية على حدود 67 وما يسمى حل الدولتين، من دون أن يتوقف أمام ما أعلنه نتنياهو بأن الضم لن يترتب عليه منح مواطنة للفسطينيين في المناطق التي ستضم، فسيبقوا رعايا بلا جنسية، وهذا يؤكد أن من أفشل إقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين بمقدوره إفشال الدولة الواحدة التي تهدد يهودية إسرائيل “وديمقراطيتها” المزعومة .فأي حل وطني بحاجة إلى كفاح وتغيير موازين القوى، وليس في متناول اليد الآن.
وحول الدولة الواحدة، هناك اجتهادات عديدة: دولة لكل مواطنيها، حيث تحوّل الكفاح من أجل دولة فلسطينية إلى نضال من أجل المساواة بالحقوق وكأن العالم سيذهب لرفضها، وهو لم يفعل ما يكفي لإقامة الدولة الفلسطينية؛ أو دولة ثنائية القومية؛ أو دولة ديمقراطية علمانية بعد “الاعتراف” بالصهيونية وبـ”يهودية إسرائيل” لنقل الصراع بين اليهود أو بعد التحرير الكامل وهزيمة وتفكيك المشروع الصهيوني الاستعماري، يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون؛ أو دولة إسلامية أو عربية تقوم على أنقاض إسرائيل.
ينسى هؤلاء وأولئك أننا بينما نختلف كالعادة على جلد الدب قبل صيده، ونتعامل مع السياسة وكأنها شعارات وينبغيات بمعزل عن موازين القوى والممكن والمستحيل؛ تترسخ سيادة دولة واحدة استعمارية عنصرية تسعى لضم ما تبقى من فلسطين لإسرائيل، عبر ضم الأرض من دون سكان، وتجميعهم سواء في جيوب داخل المناطق المضمومة، أو في معازل آهلة بالسكان مقطعة الأوصال ببقية المناطق التي يمكن أن تسمى “دولة” أو “إمبراطورية”، إلى حين يأتي الوقت المناسب لطرد المزيد من الفلسطينيين، وضم بقية فلسطين، وإقامة “إسرائيل الكبرى”.
هناك مقاربة أخرى أرى أنه كان لها فرصة أفضل من غيرها، لو اعتمدت، وربما أصبحت متأخرة جدًا، أو لا يزال أمامها فرصة أخيرة، وتقوم على تبني الفلسطينيين مقاربة شاملة جديدة تسعى للتخلص من أوسلو والبنية السياسية والاقتصادية والأمنية والأوضاع التي أوجدها، ضمن عملية تاريخية تدريجية، تهدف إلى إعادة بناء مؤسسات المنظمة وتفعيلها وجعلها تمثل الفلسطينيين قولًا وفعلًا، من خلال تشكيل قيادة وطنية موحدة مؤقتة تعمل على عقد مجلس وطني جديد، وتوزيع قياداتها ودوائرها على مختلف أماكن التجمعات الفلسطينية، خصوصًا في بلدان الطوق.
وتتضمن هذه المقاربة نقل المهمات السياسية للسلطة إلى المنظمة، على أن تكون سلطة خدمية إدارية، ما يتطلب إعادة النظر في وظائفها وموازنتها وهيكلها الوظيفي وأجهزتها الأمنية، فلا توجد حاجة لكل هذه الأجهزة، فقط هناك حاجة لجهاز الشرطة، وربما جهاز آخر. وتسعى السلطة، ضمن هذه المقاربة، إلى توفير مقومات صمود الشعب الفلسطيني، وتسيير شؤون حياته، وتكون أداة في يد منظمة التحرير وخدمة البرنامج الوطني، في نفس الوقت الذي يجري فيه الاستعداد من خلال إقامة لجان شعبية وقيادة موحدة في كل المناطق، ومؤسسات للتعليم والصحة والاقتصاد وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها الأحزاب والنقابات والبلديات والجمعيات، تحسبًا لانهيار السلطة أو حلها من قبل الاحتلال وتشكيل سلطة عميلة إذا لم تقبل الواقع الاستعماري العنصري الذي أوجده .
أما السلطة في غزة فتصبح ضمن هذه المقاربة جزءًا من السلطة الواحدة، مع مراعاة الظروف والخصائص الخاصة، بما فيها أن الاحتلال أعاد انتشار قواته، ولا يتواجد داخلها، ويحتل شريطًا منها، ويحاصرها، ويهددها بالعدوان باستمرار. وهذا يتطلب أن تكون سلطة تمثل الكل الوطني، مع ضرورة تنظيم قوى المقاومة المسلحة في جيش وطني خاضع للإستراتيجية الواحدة والقيادة الموحدة.
ما سبق يتطلب تغييرًا متدرجًا للسلطة بالتزاماتها وموازنتها وبنيتها، إذ لا يمكن إلغاء واقع بني عبر أكثر من 25 عامًا بقرار، هذا مع الاستعداد في نفس الوقت لاحتمالات انهيارها أو حلها أو استبدالها بسلطة أخرى، يمكن أن تأخذ شكل الإمارات الفلسطينية وفق مشروع الباحث الصهيوني مردخاي كيدار، الذي يرى أن مشروعه بدأ بالتنفيذ بإمارة غزة، ويرى بأن الوضع الراهن يسرّع بإقامة بقية الإمارات على أساس عائلي وجهوي.
إن المقاربة المعمول بها حتى الآن ورغم رفضها رؤية ترامب ومخطط الضم، فإن استمرارها بدون اعتماد مقاربة شاملة جديدة إما سيعيد إنتاج أوسلو (2) بشروط جديدة أسوأ من شروط أوسلو (1)، أو سيؤدي إلى انهيار السلطة وإقامة سلطة أو سلطات تخضع كليًا لإرادة الاحتلال، ويمكن أن يكون الجسر لها إشاعة الفوضى والفلتان الأمني والجوع والفقر والبطالة التي تجعل المواطن يقبل أي سلطة لأنها ستكون أفضل من تحكم الزعران وقطاع الطرق وأذناب الاحتلال.
هناك أمل رغم التوهان والضياع والانقسام، لأن الشعب الفلسطيني متمسك بقضيته، ومستعد للكفاح من أجلها، ولأن هناك رفضًا فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا لرؤية ترامب ومخطط الضم، لا يكفي حتى الآن لإحباطه، ولكن إذا بادر الفلسطينيون في الفترة الراهنة إلى القيام بخطوات نحو الوحدة والشراكة والصمود والمقاومة الشعبية، والتحضير لانتفاضة، والبناء على ما تحقق والمكاسب المتبقية سيتمكنون من دحر الضم.
فليس شيئًا ثانويًا أن أكثر من 140 دولة تعترف بالدولة الفلسطينية، وأن الأمم المتحدة والشرعية الدولية ضد ما يقوم به الاحتلال، وأن المحكمة الجنائية الدولية بدأت بملاحقة الاحتلال على جرائمه، إضافة إلى أن الشعوب العربية ضد التطبيع، ومتمسكة بمركزية القضية الفلسطينية، وإلى أن الرأي العام الدولي مع الحقوق الفلسطينية، فضلًا عن أن العالم يتغير في الإقليم والعالم كله، ومقبل حتمًا على المزيد من التغيير، لا سيما بعد جائحة كورونا، وأن إسرائيليين كثيرين، من بينهم متطرفون صهاينة ورجال أمن وعسكريون، يعتبرون أن أضرار الضم حاليًا أكثر من فوائده.