بقلم: جواد بولس
طالعتنا المواقع الاخبارية قبل بضعة ايام بنصّ بيان صادر عن “بطاركة ورؤساء الكنائس في مدينة القدس” حول عقارات باب الخليل، يعلنون في مستهله على انهم يقفون “متّحدين لحماية الوضع القائم “الستاتيكو” التاريخي المتعلق بالاماكن المقدسة وحقوق الكنائس المتعارف عليها دوليًا.. ” وينظرون الى قضية عقارات باب الخليل في القدس” على انها تهديد حقيقي لتفاهمات الوضع القائم “الستاتيكو”.
سأعترف، ربما للمرة الألف، أنني أشعر بغضب شديد كلما أقرأ مثل هذه البيانات، التي لا تعني على أرض الواقع شيئًا؛ وتُثبت، المرة تلو الاخرى، كمية الاستهتار التي يضمرها الموقعون عليها، بعقول الناس السوية.
فهي، علاوة على كونها مجرد تسجيل لمواقف متأخرة وباهتة لا تأثير لها، تساهم عمليًا بتشكيل حالة اعلامية ضبابية تخفي تفاصيل الحقائق الصحيحة، وتعتم على من كانوا وراء تلك الصفقات وغيرها، كالتي كشفت وثائقها الدقيقة على مدار عشرة أعوام وتطرقت إلى مجموعة صفقات بيع عقارات وتحكيرات طويلة الأمد نفذت في عهد البطريرك “ثيوفيلوس” بمساعدة زمرة من المحامين وأعوانهم وبعض المنتفعين العرب وغيرهم، في مواقع استراتيجية هامة مثل طبريا ويافا والقدس وغيرها.
قد يكون التعويل على قصر الذاكرة الشعبية، خاصة داخل مجتمعات ترزح تحت ضغوطات سياسية واجتماعية واقتصادية استثنائية، عنصرًا يعتمد عليه البطاركة ورؤساء الكنائس المذكورين، ويدفعهم من حين إلى آخر الى اصدار مثل هذه البيانات شبه المنسوخة بتكرار مستفز ومن دون حرج أو تحسس.
لقد لجأ هذا الجسم المسمى “البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس”، قبل ثلاثة أعوام الى اصدار بيان تطرقوا فيه الى قضية صفقات باب الخليل واستهلوه حينها بحكمة من سفر “أشعياء” تقول : ” تعلموا فعل الخير ، اطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم”؛ ثم تابعوا، بنص يشبه ما جاء في بيانهم الحالي، فأعلنوا حينها: “نحن رؤساء الكنائس في القدس نلجأ اليوم الى اصدار بيان عام يعبر عن قلقنا بشأن انتهاكات الوضع الراهن (الستاتيكو) الذي يحكم المواقع المقدسة ويضمن حقوق الكنائس وامتيازاتها “. انني على يقين ان الموقعين على البيان الحالي لم ينسوا ما جاء في بيانهم الصادر قبل ثلاثة أعوام، لكنهم، للأسف، يفترضون أو يراهنون على أننا: ننسى ..
لقد جاء نشر بيانيهما، السابق والحالي، بعد اصدار قرار المحكمة المركزية في القدس، وتثبيتها، في الاثنين، “حقوق” ملكية جمعية “عطيرت كوهنيم” الاستيطانية لعقاري باب الخليل، فندق الامبريال وفندق البترا، ومعهما مبنى “الاعظمية” القائم في منطقة حساسة من ” باب حطة”.
ولقد تغاضوا، في المناسبتين، عن معالجة المسوّغات القانونية التي اعتمدتها المحكمة في قراريها، واكتفوا، بدل التطرق اليها، بالتعبير عن “قلقهم” من الاخلال بما أسموه، بشكل ملتبس وبتعميم مقصود، “الستاتيكو” أو الوضع القائم؛ علمًا بأن هذا الوضع، وهم يعرفون ذلك طبعًا، يتطرق الى مكانة الاماكن المقدسة، ولا يتطرق الى أوضاع الاوقاف والعقارات، خاصة اذا ما بيعت بصفقات تجارية بحتة، كما حصل في هذه الحالة.
لا أعرف مَن مِن هؤلاء السادة قرأ أوراق هذه القضية منذ بداياتها في العام 2005 وتداعياتها لغاية صدور القرار الاخير يوم 2020/6/24 ؛ فلو فعلوا لاكتشفوا خيوط المؤامرة الحقيقية، ولعرفوا من هم المتآمرون على عقارات هذه الكنيسة العريقة وعلى وجود المسيحيين العرب في هذه المنطقة، وعندها ربما كانوا سيرفضون التوقيع على مثل هذه البيانات ويعارضون التقاط صورهم الجماعية مع من كان في موقع المسؤولية عمّا جرى.
لقد تمنيت قبل ثلاثة اعوام لو لم يوقع بعض رؤساء الكنائس على ذلك البيان، وقصدت تحديدًا من يهمهم مستقبل الوجود المسيحي العربي والمحافظة على أوقاف الوطن، ونوّهت حينها الى ان ما يفعلونه، في مثل هذه الظروف والمعطيات، يعتبر تمويهاً خطيرًا، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود، وحرفًا للأنظار عن المؤامرة الحقيقية وعن معاناة أبناء الكنيسة المشرقية العرب خلال قرون من استعمار اكليروس يوناني مستبد، ويعتبر، كذلك، تسترًا عن ممارسات رؤساء هذه الكنيسة الذين تورطوا وما زالوا في عمليات تسريب وبيع عقارات وأوقاف كثيرة وثمينة في عدة مدن ومواقع من شمالي البلاد حتى جنوبها.
مضت ثلاثة اعوام فقط، وها هم يطالعوننا مجددًا ببيان، ألمحوا فيه، كما فعلوا في البيان السابق، الى عدم نزاهة المحكمة الاسرائيلية والى افتقارها الى مواصفات العدل.
اشعر أن هذا الادعاء، في هذه القضية تحديدًا، مثل من يقول كلمة حق ويريد بها باطلًا؛ فانا ومثلي زملاء كثر، لسنا بحاجة لمن يثبت لنا عنصرية القضاء الاسرائيلي تجاه المواطنين العرب بشكل عام، وخاصة عندما ينظر قضاته في تظلمات الفلسطينيين أو في نزاعاتهم مع الدولة أو مع وكلائها من جمعيات استيطانية وغيرها، حول حقوقهم في اراضيهم وممتلكاتهم. نحن نعرف ان هذه المحاكم لن تنصف عربيًا يذود عن بقائه في وطنه ويناضل ضد من يخططون لاقتلاعه ولتهجيره؛ لكن من لا يعرف ذلك، ايها السادة الموقعين على بيان “الستاتيكو”، هو ، على ما يبدو، زميلكم ثيوفيلوس، الذي تغنّى قبيل الاحتفال بقداس الميلاد- قداس منتصف الليل- في السادس من كانون الثاني/يناير المنصرم وأمام قادة فلسطين وممثلين عن دول اجنبية كثيرة، بانتصاراته القانونية التي يحققها أمام المحاكم الاسرائيلية وفي معارك لم يشكو فيها من ظلم القضاة ومن عنصريتهم، بل أكد، أمام من سمعوه في تلك الليلة، على ان عيد الميلاد “يحل هذا العام في الاراضي المقدسة تزامنًا مع النصر القانوني الذي حققته بطريركية الروم الارثوذكس المقدسية في معركة الدفاع عن عقارات باب الخليل في القدس في اطار معارك متتالية تخوضها “ام الكنائس” للحفاظ على مقدراتها وعلى الوجود المسيحي الاصيل في الاراضي المقدسة وخاصة مدينة القدس التي باركها الله..”
عن أية انتصارات تحدث وبأي وجود مسيحي أصيل تغنّى؟
يشكل بيان رؤساء كنائس القدس الحالي صفعة للحقيقة وغطاءً لمن لا يستحق الصفح والمسامحة؛ ورغم ما فعلوه، سأتوجه اليهم ، عسى ان يكون بعضهم معنيًا بالوقوف مع اهل الحق وبفضح اهل الباطل، وأطلب منهم التوجه الى البطريرك ثيوفيلوس ومطالبته بتزويدهم بقائمة الاملاك التي كانت مسجلة على اسم الكنيسة الارثوذكسية المقدسية في العام 1948 ومقابلها قائمة بما بقي منها في سجلات عام 2020؛ واذا كان ذلك عسيرًا، لأي سبب، فيكفي ان يزوّدهم بقائمة الاملاك التي كانت على اسم البطركية في العام 2005 ومقابلها قائمة الاملاك التي بقيت على اسم البطريركية في هذا العام .
لن يعطيكم ذلك، فحاولوا على الاقل ان يكشف لكم اسماء اصحاب الشركات التي سجلت باسمهم بعض هذه الاملاك في الجزر البريطانية، عساكم تطمئنوا وتطمئنونا على ان اوقاف فلسطين ما زالت موجودة بأياد امينة.
وأخيرًا، لقد كتبت الكثير في هذه المسألة ولن أكرر تفاصيل ما قلنا حول المؤامرة على املاك الكنيسة وحول الضالعين فيها؛ فقبل ثلاثة أعوام استقبل النائب العام الفلسطيني شكوى بهذا الخصوص، وفتح في اعقابها ملف تحقيق لم يغلق بعد. لقد استمع النائب العام الى شهادات عديدة واستلم وثائق كثيرة وابدى اهتمامًا لافتًا بتفاصيلها، خاصة بعد ان تبنت فلسطين بقيادتها وبمؤسساتها الوطنية وباسم جميع فصائلها موقفًا يقر بان قضية املاك الكنيسة الارثوذكسية المقدسية هي قضية وطنية تقتضي متابعتها بشكل رسمي ومحاسبة المسؤولين على تسريبها والتفريط بها.
ما زال المتورطون احرار وطلقاء ويتصرفون بمقدرات هذه الكنيسة العريقة، وهذه بدون شك، حقيقة مؤلمة وموجعة ؛ لكنني، رغم ذلك، أود باسم الوجع والامل، ان استذكر مرة اخرى موقف نقابة محامي فلسطين الذي اكد، بالتوازي مع فتح الشكوى لدى النائب العام، على انهم يقفون “اليوم امام معركة وطنية بامتياز تتمثل بحماية ارض الوقف الارثوذكسي واننا في نقابة المحامين نقف صفًا واحدًا مع كل المدافعين عن عروبة فلسطين باوقافها ومقدساتها وممتلكاتها في وجه المفرطين بها ..”. هذا هو الصوت الحق، وليس صوت من يستجدي حماية شرف “الستاتيكو” الوهمي.