بقلم: عيسى قراقع*
سؤال هذه المقالة يتمحور حول أسباب انهيار النظام الاعتقالي المضاد لنظام سلطة سجون الاحتلال الاسرائيلي بعد عام 2000، والارهاصات الخطيرة التي جرت على واقع الأسرى حتى اليوم والمتمثلة بالتفسخ الداخلي والتفكك الذي اصاب جسد الحركة الاسيرة وبنيتها الاجتماعية وتراجع النظم الاعتقالية الجامعة ودور الحركة الوطنية الاسيرة التي كانت من المواقع الرئيسية للحركة الوطنية الفلسطينية والدفاع عن الهوية الوطنية والصمود في وجه الاستعمار الصهيوني.
هذا التفكك في كيان الحركة الأسيرة في مجتمع السجون حول الاسرى من فاعل اجتماعي مقاوم وموحد الى فاعل اجتماعي فرداني ممزق الانسجة والاوصال تسوده الايديولوجية الفئوية والجهوية والفوضى وليس الوطنية السياسية الموحدة.
كيف استطاع نظام الاحتلال واجهزته النجاح بالسيطرة على الأسرى وخلق نظام فصل افقي وعمودي في صفوفهم وتحوير مفاهيمهم وقناعاتهم وتغيير اهتماماتهم واولوياتهم من مجتمع مقاوم، من سلطة ثورية، مدرسة ثورية وتربوية وديمقراطية متميزة تسوده سمات ثقافية وقواعد مسلكية وانظمة ورواية للصمود والبطولة والمقاومة الى واقع يسوده الترهل والتشتت وغياب الوحدة وتفكك البنية الايديولوجية والحياة المشتركة والتضامن الجماعي والانضباط الداخلي؟
هذه الاسئلة موضوع المقالة هي ما احاول أن أجيب عليها من خلال قراءة لنصوص الأسير المناضل وليد دقة، ابن باقة الغربية، الذي يقضي 34 عاما في سجون الاحتلال، حيث تناول هذا الواقع المرير والمؤلم والصادم الذي اجتاح الحركة الأسيرة منذ منتصف التسعينات وذلك في كتابه الشهير (صهر الوعي أو اعادة تعريف التعذيب) وفي مقالة بعنوان (الكابو الفلسطيني واشكالية الاطار المفاهيمي للجان حقوق الانسان)، والتي نشرت على موقع مركز حنظلة للاسرى والمحررين.
يعتبر وليد دقة حسب معرفتي اول من تناول بالنقد واقع الأسرى وأسباب انهيار النظم الاعتقالية الوحدوية في صفوفهم وسيادة النزعات الفردية والشخصانية والبلدية وتراجع المؤسسة الاعتقالية والروح النضالية الجماعية والثقافية مما اعتبر انقلابا حادا على المفاهيم والعلاقات والنظم التي حكمت مسار وتجربة الحركة الاسيرة منذ البدايات.
ما أورده وليد دقه في نصوصه المكتوبة سمعته من عدد كبير من الأسرى المحررين مما فتح باب الدراسات النقدية وان كانت محدودة تناولت واقع الاسرى المتغير منها : رسالة الماجستير قدمت في جامعة بيرزيت للطالبة نهاية محمود ابو ريان بعنوان ( التغيير في البناء الاجتماعي للاسرى السياسيين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية بعد عام 2000) ومنها مقال للاسير قتيبة مسلم بعنوان (رجال الكابو المصطلح القديم والجديد) ونشر على موقع دنيا الوطن، منها مقال للاسير حسام شاهين بعنوان ( لكي لا تضيع الحقيقة) نشرت في صحيفة القدس، ومنها رسالة الأسير كريم يونس الموجهه الى اللجنة المركزية لحركة فتح المتعلقة بإتفاق ظواهر فاسدة وخطيرة في صفوف الحركة الأسيرة في السنوات الأخيرة.
الأهداف
وليد دقة في نصوصه النقدية يهدف الى التحذير من المخطط الصهيوني الخطير الذي يستهدف الانسان الاسير، فلم يعد السجن مجرد احتجاز وعقاب ولم يعد التعذيب بالقمع والضرب وتشديد الاجراءات وانما اصبح نظام السيطرة داخل السجون يستهدف العقل والارادة والروح الوطنية للاسرى وتحويلهم الى مجرد اشياء بلا قيمة انسانية ووطنية ليبقى دون الهوية والقيم الوطنية الجامعة ونزع روح الثورة والمقاومة والتحدي التي كانت تمثلها السجون على مدار كافة السنوات السابقة.
وليد يحذر من مخطط صهر الوعي الفلسطيني، وهو نظام الاحتواء واعادة تشكيل وعي الاسرى بحيث يصبح نضالهم التحرري من اجل الوطن والكرامة نضالا من اجل مكتسبات فردية ومادية بعد اغراقهم في الهموم الشخصية واخضاعهم لسياسة التدجين والانصياع.
هذه السياسة يعتبرها وليد من اخطر السياسات التي تواجه الاسرى استراتيجيا لانها تستهدف رموز حركة التحرر الوطني ومكانتهم النضالية والقانونية وبالتالي تستهدف مشروعية النضال الوطني الفلسطيني برمته.
السيطرة على الأسرى وتحوير وعيهم يعني السيطرة على مشروع الحرية والاستقلال الذي يمثله الاسرى ورأس الحربة في مواجهة المحتلين.
السيطرة على الاسرى هو سيطرة على المثال والرمز والنموذج الوطني والقيم العليا والتي تعتبر جزء من مكونات الثقافة والذاكرة الجمعية الفلسطينية.
ويربط وليد في نصوصه بين ما يجري على ارض فلسطين من اعادة هندسة الجرافيا واقامة المعازل والكنتونات والجدران وسياسة الفصل العنصري وعزل الناس في تجمعات متنائية بما يجري بداخل السجون، بحيث اصبح السجن مختبرا للسياسة الكولونيالية الاسرائيلية التي تنفذ على الارض الفلسطينية فما يجري في السجون هو انعكاس للسياسة الاسرائيلية الهادفة الى تكريس الابرتهايد ومقايضة الحقوق السياسية والوطنية بمشاريع الرفاهية الاقتصادية.
مشروع سياسي
الكابو هي التسمية التي كان الألمان يختارونه اثناء الحرب العالمية الثانية من بين سكان الجيتو اليهود ليمثل حلقة الوصل بينهم وبين باقي السكان ، وكثيرا ما كان هؤلاء يتفاوضون مع القوات الالمانية لينقلوا الاخبار واماكن المخابئ السرية وذلك مقابل امتيازات مادية واحيانا مقابل عدم نقلهم الى المحرقة .
واستخدم الألمان أسرى كرجال الكابو في معسكرات الاعتقال لقمع زملائهم من الاسرى وتنفيذ تعليمات ادارة المعسكر، فالكابو يقوم بدور السجان وربما اسوأ من ذلك ، وقد وصف الدكتور فيكتور فرانكل الذي كان سجينا في المعسكرات الالمانية الكابو في كتابه ( الانسان يبحث عن معنى) بقوله: رجال الكابو كانوا اشد ضراوة من الحراس في معاملة المسجونين، فكانوا يكيلون لهم الضربات بقسوة مبرحة اكثر مما يفعل رجال ال (س س ).
رجال الكابو في سجون الاحتلال كما يقول وليد دقة هم الاداة لتنفيذ نظام السيطرة والمراقبة داخل السجون نيابة عن السجان، وهم اشخاص اصبحوا مسلوبي الارادة، عاجزين، مدجنين، ينفذون تعليمات ادارة السجون، تتنازعهم الدوافع السلطوية والمادية، اصبحوا بلا روح وتحولوا الى كرباج بيد مصلحة السجون، والكابو ليس مجرد افراد وانما هم تعبير عن ظاهرة تستهدف تقويض الوطنية الفلسطينية لدى المعتقلين .
ان تقنيات السيطرة الحديثة على الأسرى من خلال نظام الكابولم تأت من فراغ ، وانما جاءت نتيجة عوامل وارهاصات عديدة مرت بها الحركة الاسيرة ، منها حالة التفسخ والاحباط بين المعتقلين بعد اتفاقية اسلو والانقسام الفلسطيني الفلسطيني ودخول اجيال جديدة في الانتفاضة الثانية الى السجون ذات ثقافات وميول مختلفة لم يستطع نظام الاسرى القديم دمجهم في قوانينه وانظمته مما خلق فجوة في البناء الاجتماعي للحركة الاسيرة في السجون .
وسيلة للسيطرة على الأسرى
يستعرض وليد دقة ظاهرة الكابو كوسيلة للسيطرة على الاسرى وانعكاسها على الحياة الداخلة من خلال سياسة فصل او تعميق الفصل بين الاقسام داخل السجن الواحد وعزلها عن بعضها البعض وفقا لتقسيمات واعتبارات جغرافيا ثم تقسيم الاقسام على معازل واقسام جغرافية اصغر( مدينة قرية مخيم بلدة) بحيث تحول التقسيم الجغرافي الى انتماء جغرافي يلغي الانتماء الوطني مما يجعل عملية السيطرة اسهل واكثر شمولا، اضافة الى الغاء العمل بلجنة الحوار او لجنة ممثلي الاسرى واستبدالها بناطقين باسم كل قسم و منطقة جغرافية، ويجري تعيين هذا الناطق من قبل ادارة السجون وبهذا افرغت ادارة السجن التمثيل الاعتقالي من محتواه الوطني بحيث اصبح اقرب الى الكابو منه لممثل اسرى، واعطت ادارة السجن لهذا الممثل صلاحيات عديدة وقدرات على الحركة والتأثير.
هذا الفصل المناطقي عززه الفصل السياسي خاصة بعد انقلاب حماس، فصل اسرى فتح عن اسرى حماس، وقد اصبح كل قسم بمثابة سجن مستقل له ناطقه ومطالبه الخاصة غير مرتبط بالاقسام الاخرى ولا تربطه معه أي وحدة، وكل أسير يطرح مطالبه بشكل فردي.
هذا الواقع ادى الى انهيار النظام الثقافي والانضباط والقوانين واللوائح الداخلية ولم تعد قابلة للتنفيذ وانعكاسها على قدرة الاسرى على النضال الجماعي، وبروز ظاهرة الاضرابات الفردية بشكل واسع، وكذلك ادى الى تغيير في ايديولوجية الانتماء ليصبح الانتماء الى الذات الفردية او الى الشلة او الى القرية والمدينة والمخيم وليس الانتماء للمصير المشترك للكل الاسير.
ظاهرة الكابو اغرقت الاسرى بالهموم الفردية الشخصية وبالرفاهية المتاحة من اموال ومواد غذائية وبيع وتجارة وخلق حالة من التشوه الاجتماعي النفسي للأسرى حيث اصبحوا حريصين على هذه الوفرة المادية على حساب القضايا الوطنية الاساسية بعد ان تحولت الى جوهر حياة الأسرى واهتماماتهم اليومية.
الهدف الإسرائيلي من الكابو كنظام سيطرة هو تحويل نضال الأسرى من نضال وطني تحرري الى نضال معيشي مطلبي فردي، ومن مناضلين من اجل الحرية الى مجرد كائنات تتنازعها دوافع البقاء الغريزية والمادية والتطلعات الفردية.
اضراب نيسان 2017
كشف الكابو عن انيابه بشكل واضح وخطير خلال الاضراب الملحمي الذي خاضه الاسرى في 17 نيسان 2017 واستمر 42 يوما بقيادة الاسير مروان البرغوثي، وكان الاضراب يستهدف في جوهره لاعادة الاعتبار لهيبة ودور الحركة الأسيرة وتحطيم نظام السيطرة، نظام الكابو، التدجين وسلب الارادة، اضافة الى اعادة الاعتبار للروح الجماعية والوحدوية والوطنية للحركة الاسيرة.
شنت ادارة السجون من خلال رجال الكابو حربا شرسة ضد المضربين لا سابقة لها الى درجة انها دعت الى قتلهم وسحقهم كونها ادركت ان المستهدف من الاضراب هو نظام السيطرة والهيمنة الذي سعت الى تكريسه بشكل مبرمج ومدروس.
يقول وليد دقة: ظهر الكابو منتميا كليا لمشروع السجان خلال اضراب نيسان 2017، خادماً طبيعياً ومعرقلا فاعلا لهذا التحرك، ففي هذا الاضراب كشف الكابو القناع عن وجهه من خلال التحريض على الاضراب وتشويه اهدافه، الاعتداء على الاسرى المضربين وارهابهم، واستخدام نفس وسائل ادارة السجون في محاولات اجهاض الاضراب وكسره، كون الاضراب عرى هؤلاء امام شعبهم وكشف حجم تورطهم مع ادارة السجن.
الكابو حرب على الوعي
ظاهرة الكابو في نصوص وليد دقة هي حرب على الوعي وهي محور دراسات استراتيجية اسرائيلية استندت الى نظريات في علم النفس والاجتماع ويقوم بها مراكز ابحاث تابعة للاستخبارات الاسرائيلية، وهدف الحرب على الوعي هو جعل الجماهير الفلسطينية ومنهم الاسرى تتبنى مفهوم الواقع المادي والثقافي المهيمن عليه من الاحتلال، وان الحرية التي ينادي بها الشعب الفلسطيني اصبحت مخيفة تهدد مصالح الكثيرين وتفقدهم وجودهم الذي تمأسس من خلال الاحتلال.
الحرب على الوعي يتم من خلال البرمجة والمراقبة والملاحظة العملية للعقل والجسد والغرائز واقناع البشر ان الهدف هو الوصول الى السعادة والرفاهية والمطامح الفردية، وان المال اهم من حق تقرير المصير والحقوق القومية.
نظام الكابو حول الاسرى الى مستهلكين مكتفين بما يصل حساباتهم من اموال وبالامتيازات التي حولتهم الى متنمرين ومتسلبطين وذوي نفوذ وقوة يدافعون عن الامر الواقع.
نظام الكابو هو سياسة التكييف والتدجين وشطب الشعارات الوطنية ومحوها ورفع شعار الخلاص الفردي بدل الكرامة والحرية والاستقلال والمقاومة.
نظام الكابو هو ذلك السجان الغير مرئي الذي استطاع ان يحول الهم الجماعي الى هم فردي، الوطنية صارت سوقا ومصالح ومكتسبات، تحويل الكائن الحي الى سلعة او مجرد شيء وعندما تفتح ابواب المال والنفوذ تضيع الكرامة.
نظام الكابو هو سلسلة قيود اقوى من سلاسل الحديد وهي المصلحة والمال وتقييد العقل وشل الارادة المشتركة للأسرى ليكفوا عن كونهم جسماً او كياناً وطنياً اسيرا واحدا وتوجيه ضربة لمجموع المفاهيم والقيم الجامعة.
نظام الكابو طبق خطة سياسية موجهة لتفريغ وفردنة الأسرى وتحطيم كل ما من شأنه ان يحولهم الى جماعة عبر التصدي للتفكير او مجرد الاعتقاد بفكرة العمل والنضال او الهوية المشتركة.
نظام الكابو مخطط يستهدف تحويل الأسرى انفسهم لحاملي السلطة التي يمارسونها على انفسهم لئلا يفقدوا مصالحهم ونفوذهم.
نظام الكابو من اخطرالعقبات في طريق تحقيق التحرر خاصة عندما يمتص الواقع القمعي الضحايا ويعمل على طمس هويتهم وتفريغهم من محتواهم الوطني.
الخلاصة
الأسير وليد دقة في نصوصه حول ظاهرة الكابو في السجون يحذر من انتشار وتوسع هذه الظاهرة لتصبح نهجا ونظاما وقاعدة ويدعو مؤسسات حقوق الانسان تناول هذه الظاهرة كسياسة عقاب وبرمجة وتعذيب واعدام سياسي يتعرض له الاسرى وجزء من الانتهاكات والجرائم التي تمارس بحقهم.
ويطالب وليد القوى والتنظيمات والقيادات في السجون الى تدارك مخاطر نظام الكابو كسياسة موجهة وحرب صامتة تجري على حياتهم وعقولهم ومواجهة ذلك باعادة الاعتبار للنضال الجماعي والوحدة الوطنية والقيم الوطنية الجامعة.
يقول وليد دقة: لا يشبه القمع والتعذيب التي تصفها ادبيات السجون في العالم، ليس هناك حرمان فعلي من الطعام او الدواء، ولن تجدوا من هم محرومون من الشمس ومدفونون تحت الارض، لا يكبل الاسرى كما في الروايات بسلاسل مشدودة بكتل حديدية طول النهار، فلم يعد الجسد الاسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف المباشر، انما المستهدف هو الروح والعقل.
الأسير وليد دقة يحذر من تحويل السجن الى مؤسسة داخلية للاستفراد بجيل كامل من الشباب الفلسطيني لغرض إعادة هندسته اجتماعياً وتشكيل وعيه وتحويل مجتمع الاعتقال الى مجتمع بدائي وما قبل وطني من أجل الغاء القدرة على مقاومة ارادة المحتل.
حسب وليد دقة فإن العدوان على حقوق الأسرى لم يعد مادياً بقدر ما أصبح يستهدف هويتهم النضالية وتجريم نضالهم الوطني ونزع مشروعيته، وانه بات ذلك مخططاً استراتيجياً بهدف تحويل الأسرى الى مستهلكين وخصخصة نضالهم الجماعي وضرب القيم والثقافة الوطنية
*عضو المجلس التشريعي، رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين السابق