هل هناك خصومة بين القانون والسياسة في فلسطين؟!

10 مارس 2021آخر تحديث :
هل هناك خصومة بين القانون والسياسة في فلسطين؟!
هل هناك خصومة بين القانون والسياسة في فلسطين؟!

بقلم: المحامي إبراهيم شعبان

كان وما زال الكثير من السياسيين في فلسطين على اختلاف مسمياتهم ورتبهم، يتذمرون ويشكون مر الشكوى من جمود القانون في فلسطين وترهله وقدمه، وكونه عقبة في طريق النمو والتنمية. لذلك ما انفكوا يرددون هذه الإسطوانة المشروخة لتبرير فشل التنمية في فلسطين ويحملون القانون وزر هذه المسألة وتوابعها، ويدعون لتحديث الأنظمة القانونية وكأنها ربطة عنق أو رداء يخضع لمقاييس الموضة الباريسية. وليس هذا حدسا أو تنبؤا أو نقلا بل كلاما سمعته في مؤتمرات وندوات.

ولعل الفهم الخاطىء للقانون ووظيفته وهدفه وغايته جعلت كثيرا من السياسيين الفلسطينيين يرون فيه عقبة كأداء، لذا تولدت عندهم رغبة في خرقه باستمرار بل والقفز عليه لأنه لا يلبي المصالح المتحركة للسياسة الفلسطينية وفق المتغيرات الدولية. ويبدو أن طبيعتهم الثورية وعدم استقررهم في مكان واحد – وهو الأصل – جعلتهم يضيقون ذرعا بهذا القانون الجامد الذي ورثوه عن غيرهم، والذي لا يسمح بالمناورة ويعتد بشكليات ما أنزل الله بها من سلطان، بينما رأى في رأيه الخاص أركانا أساسية للعدالة.

وزاد الطين بلّة أن الكثيرين من السياسيين مثلهم مثل أهل العشائر ومثل أهل الفتوى، استهانوا بالقانون الوضعي، وقزّموا دوره، وأجروا عليه تعديلات متلاحقة حتى يخدم أهدافهم السياسية. ومن هنا حصلت هوة واسعة بين القانوني والسياسي، وبين رجال القانون الجالس والواقف وبين السلطة التنفيذية. ولعل الأزمة الحاصلة هذه الأيام هي نتاج ما ذكر. بل قام كثير من المحافظين بالسير في ركاب أهل القضا والمشا لحل مشاكل الناس أو شكلوا مكاتب لذلك، مستولين على صلاحيات السلطة القضائية.

ونسي الجميع أن القانون وكله وضعي هذه الأيام، يشكل الرافعة الأساسية الحضارية للدول الموجودة على هذا الكون، المختلفة المصالح إلى حد التطاحن. واليوم لا توجد دولة ولا تجمع ولا هيئة ولا شركة بدون رافعة قانونية حتى في الدول التي تزعم أنها لا تطبق القانون الوضعي بل الديني مثل السعودية وإسرائيل. فقد غدا القانون الرافعة البشرية الأساسية لتقدم أي مجتمع في هذا العالم المترامي الأطراف، بدءا من اليابان شرقا حتى البرازيل غربا، ومن الدول الإسكندنافية شمالا إلى دولة جنوب أفريقيا جنوبا. فغياب القانون يعيد للصورة حكم الإستبداد والقهر والظلم.

وجد القانون الوضعي عبر العصور وعبر الزمن، ليخدم المجتمع وليقيم العدالة ويمنع الفوضى ويحمي المراكز القانونية. لذلك صيغ عبر قواعد عامة مجردة تخاطب الجميع بغض النظر عن أسمائهم ولكن بصفاتهم، حتى لا يحدث أي انحراف تشريعي. فذكر اسم الشخص في القاعدة القانونية مهما كان تقيا أو ورعا أو محايدا محظورا، ولا بد من أن يؤدي ذلك لخرق القانون وتجريده وعدالته ومساواته بين الأفراد. ونتيجة لذك يتصف القانون الوضعي بالجمود نظرا للبطىء في تعديله وتغييره وتبديله. ومن هنا قد يصطدم مع السياسي العجول أو غير القادر على التواؤم مع الظروف المستجدة بحيث يسعى لتغييره بأقصى ما يستطيع وبالقفز عن القواعد الأساسية الدستورية والحقوق والحريات العامة. ويجب أن ننوه هنا أن المشرع لجأ غلى المفردات والأالفاظ المرنة حتى يسهل عمل السياسي لأنه كان يعلم الظروف المستقبلية التي ستحيط بعمله والمشاكل التي ستجد له. ورغم ذلك سار السياسي في الطريق الأقصر واختط خطة المواجهة مع القانون.

ورب قائل ما الخطا في ان يقوم السياسي الذي يشكل السلطة التنفيذية وتحقيق الصالح العام، بتغيير القانون ما دام التغيير ينبثق من مصلحة المجتمع، والتي تمثل مصلحته الأساسية في السير بالمجتمع نحو الأمن والأمان. وهنا تحدث المشكلة والطامة الكبرى، وبخاصة في ظل ثورة المقاومة وشرعيتها. بينما القانون يرفض مثل هذه الشرعية التي لا تنبثق من القانون نفسه.

وقد قلنا سابقا وفي أكثر من مقال، وما زلنا نقول، أن النظام السياسي الفلسطيني نظام هجين غير واضح المعالم والأركان فلا هو بالنظام الرئاسي ولا هو بالنظام البرلماني . واحتج الكثيرون بعلم أو بدون علم، بأن للشعب الفلسطيني طبيعة خاصة تأبى الإنطواء تحت أيهما. لكن إذا قررنا أن نكون دولة وننضم للمعاهدات الدولية ونقيم قانونا أساسا ونشرع التشريعات ونعلن صباح مساء أننا دولة قانون، فعلينا أن نتقيد بالقواعد العالمية والمحلية للتشريع والمعاهدة، اي القانون ببساطة. ولسنا أحرارا بالتقيد تارة وبالانطلاق تارة أخرى.

ببساطة شديدة، يجب أن نعمل سيادة القانون على جميع السلط الثلاث وعلى الأفراد جميعا، وعلى الشرطة وأجهزة الأمن بكل مسمياتها، والمحافظين والوزراء ورئيس الوزراء، وحتى الرئيس ذاته. وقطعا القضاة ورجال النيابة العامة مطالبون بهذا الإعمال. وبدون هذا الإعمال على كل من ذكر آنفا تتحول الدولة القانونية إلى دولة بوليسية أو دكتاتورية أو استبدادية.

وقد يستشيط أحدهم غضبا ويصرخ في وجهي قائلا كيف لك أن تطالب بمثل ما تقول. وكيف لرجل الأمن أن ينصاع لحكم القانون في الأوضاع الاستثنائية؟ ولم لا يسمح لوزير أن لا ينفذ حكما قضائيا إذا رأى أن مصلحة الشعب تتحقق من خلال ذلك الامتناع؟ ولم لا يقرر مجلس الوزراء أو رئيس الوزراء أمرا ما، فما هو الفرق بين الاثنين؟ ولم يجب تقييد الرئيس بصلاحيات قانونية تشكل عبئا عليه وينوء بحملها، والأفضل أن يتحرر منها جزئيا أو كليا؟ ومن يستطيع أن يراقب على الرئيس وموازنته وكيفية إنفاقها؟ ومن يستطيع أن يدقق في موازنات أجهزة الأمن؟ وعليه قس.

الجواب جد بسيط هو أن المجتمع ليس مزرعة أو شركة خاصة أو بيتا خاصا لواحد ممن يتولون السلطة العامة ومنحوا امتيازات القانون العام. لذا لكل اختصاصه وعمله ولا يجوز تعديه أو سلب غيره هذا العمل بحجة أو بأخرى. ومن هنا نشأ مبدأ الفصل بين السلطات الدستوري الذي اضمحل لدرجة كبيرة. فبدل الفصل بينها هو الأساس، غدا التدخل فيما بينها هو المطلوب وهو المعمول به. وعليه يجب أن تقوم رياضة روحية للإلتزام بالقانون وحيثياته، وأن يكون هناك نوع من الرقابة والتفتيش والشفافية وفق ما قرره القانون الأساس، وليس بطريقة الصدقة أو المعروف أو الحسنة .

كان في غياب المجلس التشريعي أو تغييبه، استمرارا لنهج الشخصنة القانونية الذي استقدمناه، والذي أوجد تضاربا وتناحرا مع المصلحة العامة الحقيقية بحيث غدت مثلا وزارة العدل الفلسطينية وزارة منزوعة الدسم بدون اختصاص حقيقي في مجال العدالة. وغدت السلطة القضائية عرضة لتدخلات ولاهتزازات وتراجعات في ظل الفعل ورد الفعل . وهذا استدعى ردا وحيدا من نقابة المحامين الفلسطينيين، في الذي يجب أن لا يكون ويجب أن لا يسمح به، وفق القواعد العامة للعدل والإنصاف.

وبدل أن تكون المادة 43 من القانون الأساس لعام 2003 قاربا للنجاة من الظروف الإستثنائية ووضع حلول لها من خلال ما سمي القرار بقانون، غدت أداة طيعة لتعليق أو تعديل أي تشريع بشكل مستعجل أو اتخاذ اي قرار. بل تم تخطي عدم الإنتظار لنتائج الإنتخابات التشريعية القادمة والتي ستفرز مجلسا تشريعيا جديدا. ويقوم هذا المجلس التشريعي الجديد بحسب ما أوكلت إليه المادة 43 من القانون الأساس بفحص وتنقيح جميع القرارات بقانون السابقة على تشكيله بل سيقضي الدورة القادمة في فحصها إن قيد له الإجتماع.

يتصف القانون بالإلزام والسمة الحضارية، وأنه يطبق على جميع المخاطبين بأحكامه بسواسية. وتجاهل القانون جزئيا أو كليا يودي بالمجتمع الفلسطيني إلى قانون الغاب والواسطة والمحسوبية والفساد. ولن تقوم قائمة للدولة الفلسطينية العتيدة بدون القانون وسيادته وفصل السلطات، واحترام الحقوق والحريات العامة للأفراد، بل إنه أقصر طريق للوصول إليها!