نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” اليوم الاربعاء تحقيقاً يتضمن تفاصيل مرعبة عن المجازر التي ارتكبتها عناصر مسلحة موالية لنظام الرئيس السوري بشار الاسد في قرية البيضا ومنطقة راس النبع في مدينة بانياس الساحلية. وهنا نص التحقيق الذي اعدته مراسلتا الصحيفة آن بيرنارد وهانية مرتضى من بيروت:
“بعد ان جر 46 جثةً من الشوارع قرب بلدته على الساحل السوري، نسي عمر العدد. ويقول انه بقي لاربعة ايام بعد ذلك غير قادر على الاكل وهو يتذكر جثة محروقة لطفل لا يتجازوز عمره ثلاثة اشهر، وجنيناً منتزعاً من بطن امرأة، وصديقاً ممدداً ميتاً وكلبه ما زال واقفاً بجانبه يحرسه.
نجا عمر مما يسميه سكان ونشطاء مناوئون للحكومة ومراقبون لحقوق الانسان احدى اكثر الحلقات ظلاماً في الحرب السورية، مشيرين الى مذبحة في محافظة بانياس التي تسيطر عليها الحكومة الهبت الانقسامات الطائفية، وكشفت اعماقا جديدة للفساد الاخلاقي وجعلت امكانية استعادة لحمة البلاد تبدو اصعب بصورة متزايدة.
كان القتل الجماعي هذا الشهر حلقة في سلسلة هجمات ذات طابع طائفي استغلها سوريون من الجانبين لشيطنة بعضهم بعضاً. وقد صور المقاتلون الحكوميون والمقاتلون المعارضون انفسهم وهم يرتكبون فظائع ليراها العالم.
وتظهر لقطات الفيديو بانتظام مقاتلين موالين للحكومة وهم يضربون ويقتلون ويمثلون بجثث معتقلين متمردين سنيين او وهم يجبرونهم على ان يصفوا الرئيس بشار الاسد بانه الله. وصور احد قادة المتمردين نفسه في الآونة الاخيرة وهو يقطع عضوا من جثة مقاتل ميت موال للنظام ثم يعضه ويقسم ان العلويين، وهم الطائفة الشيعية التي ينتمي اليها الرئيس الاسد، سيلقون نفس المصير.
وقد اذكى هذا العنف الفظيع التشاؤم بشأن الجهود الدولية لانهاء القتال. وبينما تعمل الولايات المتحدة وروسيا لتنظيم محادثات سلام الشهر المقبل بين الرئيس الاسد ومعارضيه، فان القتل الذي يزداد تطرفاً يجعل المصالحة تبدو قصية اكثر من اي وقت سابق.
وقال نديم حوري، مدير هيومان رايتس ووتش في بيروت انه يلمس “انفصالاً تاماً بين الدبلوماسية والاحداث على الارض”.
وقال: “الصراع صار اكثر عمقاً”. واضاف انه من دون اجراءات لبناء الثقة، ومع ازدياد عدد الناس “الذين يعتبرون (ما يجري) صراعاً وجودياً، من الصعب تصور كيف سيكون شكل المفاوضات”.
جرت عمليات الاعدام، التي جمعت المعلومات عنها بالتحدث الى سكان وراصدين لحقوق الانسان، على مدى ثلاثة ايام في جيبين سنيين في المحافظة التي تتكون غالبية سكانها من علويين ومسيحيين، اوَلاً في قرية البيضا ثم في منطقة راس النبع من مدينة بانياس القريبة.
ذهبت قوات الحكومة والميليشيات المساندة لها من منزل الى منزل لتقتل عائلات باكملها وتهشم رؤوس رجال بقطع من الخرسانة.
وقدم نشطاء مناوئون للحكومة قائمة تضم 322 ضحية قالوا انه تم التعرف على هوياتهم. واظهرت تسجيلات فيديو عشرة اطفال على الاقل مقتولين. وقيل ان مئات آخرين مفقودون.
قال احمد ابو الخير، وهو مدون معروف من البيضا: “كيف يمكننا الوصول الى نقطة صفح وطني؟”. واضاف ان الهجمات بدأت هناك وان 800 من نحو 6 آلاف هم سكان القرية مفقودون.
وكانت تسجيلات فيديو قال سكان انهم التقطوها في البيضا وراس النبع – لاطفال صغار ممدين حيث ماتوا، وبعضهم يعانق بعضهم الآخر او آباءهم – مروعة الى درجة ان بعض انصار الحكومة رفضوا رواية التلفزيون الرسمي للاحداث القائلة بان الجيش “سحق عدداً من الارهابيين”.
واتخذ احد الكتاب الموالين للحكومة، بسام القاضي، خطوة غير اعتيادية تنطوي على مخاطرة بالقائه اللوم على مسلحين موالين (للنظام) واتهامه الحكومة “بغض الطرف عن مجرمين وقتلة باسم ما يقال انه الدفاع عن الوطن”.
وقد سببت صور اعمال القتل في بانياس وما حولها ذهول السوريين. وفي تسجيل فيديو يقول سكان انه يظهر ضحايا في راس النبع، تبدو جثث سبعة اطفال على الاقل وبضعة يافعين متشابكة ومدمية على ارض الشارع المبلل بالمطر. وتحدق طفلة صغيرة، عارية من الوسط فما دونه، نحو السماء، ويداها الصغيرتان منقبضتان. ويُرى وجهها المستدير من دون خدش ولكن بطنها مسود ورجلاها وقدماها متفحمة.
وصف قادة المعارضة عمليات القتل في بانياس بانها مجازر “تطهير” طائفي هدفها اخراج السنة من المنطقة التي قد تشكل جزءاً من دويلة علوية في سوريا اذا ما انقسمت البلاد في نهاية الامر. وقال حوري ان مما لا مفر منه ان اعمال القتل تثير مثل هذه المخاوف مع انه لا توجد ادلة على سياسة عريضة كهذه. ويبقى عشرات الآلاف من السنيين المشردين في المحافظة آمنين.
لم تتبع كل ردود الفعل خطوطا طائفية. وقال ناجون ان جيراناً مسيحيين ساعدوا الاحياء في الهرب. وقال سكان علويون ومسيحيون الثلاثاء انهم بدأوا حملة مساعدات للضحايا ” ليتحدوا الريح الطائفية”.
وصف السيد القاضي، الكاتب الموالي للحكومة، القتلة بانهم “مجرمون لا يمثلون العلويين” ودعا الحكومة الى “الاقرار فوراً بما حدث” واعتقال “هؤلاء الضباع”.
واضاف: “لقد وقع هذا في اماكن كثيرة. بانياس هي الاحدث فقط”.
عندما بدأت الانتفاضة في آذار (مارس) 2011 كحركة سلمية، رفع السنة في البيضا لافتات تندد بالمتطرفين السنة، سعياً الى طمأنة العلويين الى انهم يعارضون الرئيس الاسد وليس طائفته، حسب قول المدون ابو الخير.
وفي ايار (مايو) 2011، اقتحمت قوات امن القرية وقتلت متظاهربن من بينهم نساء.
بعد ذلك بقيت البيضا هادئة الى حد كبير. وغادرها معظم النشطاء ومن صاروا مقاتلين. ولكن السكان قالوا انهم كثيرا ما ساعدوا جنوداً فارين على الهرب، وهو نمط يعتقدون انه فجر العنف.
بداية المجازر
قال نشطاء ان قوات امن جاءت يوم 2 ايار (مايو)، حوالي الساعة 4 صباحاً، لتعتقل فارين، ونصب لها كمين قتل بضعة مقاتلين حكوميين – وهو اول اشتباك مسلح في بانياس. واستدعت الحكومة تعزيزات وبدأت في حوالي الساعة 7 صباحاً في قصف القرية.
وعرضت قناة تلفزيونية موالية للحكومة مراسلاً على تلة مطلة على البيضا. وارتفع الدخان من سفوح خضراء ومنازل في الاسفل قال المراسل ان “ارهابيين” يختبئون فيها. وسار افراد مجموعة رجال وصفهم المراسل بانهم مقاتلون حكوميون غير مسرعين عبر ميدان.
قال رجل يرتدي بزة (عسكرية) امام الكاميرا “ان شاء الله البيضا ستنتهي اليوم”.
ما حدث بعد ذلك وصفه، في مكالمات سكايب، اربعة ناجين لم يعطوا من اجل سلامتهم سوى القابهم، وناشط من بانياس، والسيد ابو الخير الذي قال انه تحدث من دمشق مع اكثر من 30 شاهداً.
ذهب رجال في زي عسكري جزئي او كلي من باب الى باب واخذوا يفصلون الرجال – والاولاد من سن 10 سنوات فما فوق – عن النساء والاطفال الاصغر.
وقال سكان ان بعض الرجال المسلحين كانوا من قوات الدفاع الوطني، وهي الاطار الجديد للميليشيات الموالية للحكومة، ومعظمهم علويون من منطقة بانياس. وقد قتلوا الرجال بضربهم على الرؤوس واطلاق الرصاص، وقتلوا بالرصاص او طعناً افراد عائلات حتى الموت واحرقوا منازل وجثثاً.
قال الناشط في بانياس، ابو عبادة، ان قوات الامن امرت الناس بان يتجمعوا في الساحة، وقام بعض قرويي البيضا الذين تخوفوا من وقوع مجزرة بمهاجمتهم باسلحة تخلى عنها فارون. وشكك سكان آخرون في صحة ذلك او كانوا غير متأكين لانهم كانوا مختبئين.
قالت ابنة عم للسيد ابو الخير اطلقت على نفسها اسم وردة حرة ان قريباتها تم اقتيادهن مع الاطفال الى غرفة نوم وسمعن اقاربهن الرجال يبكون من الالم على مقربة. وقالت ان ابن عمها احمد، 10، وشقيقه عثمان، 16، ادخلا في احدى المراحل وهما جريحان ويعرجان.
وقد توسلت عمتها الى حارس ليبقيهما لكنه قال: “سيقتلونني اذا ارتكبت غلطة واحدة”.
وسرعان ما صرخ به مسلح آخر واخذ الولدين. وهما ما زالا مفقودين.
جلب المسلحون مزيداً من النساء، الى ان تجمعت 100 في الغرفة. وامر الحارس بقتلهن. قال الحارس: “لا تتسرع! خذ نفساً”.
واذعن الرجل. وسمعت النساء مسلحين يحتفلون في الساحة. وتم الافراج عنهن في وقت لاحق. وعندما خرجن كانت هناك “جثث في كل زاوية”، حسب قول الآنسة (وردة) حرة.
قال احد سكان القرية، ابو عبد الله، انه هرب من منزله وعاد بعد حلول الظلام ليجد جثثا مطعونة محروقة لنساء واطفال ملقاة في الساحة، ويجد 30 من اقاربه مقتولين.
عمر، من راس النبع القريبة، الرجل الذي سحب عشرات الجثث من الشوارع، قال انه ساعد سكان البيضا في التقاط الجثث، بوضع 46 في منزلين والبقية في مسجد، ثم هرب، خشية من عودة القتلة. وقال انه تعرف الى هوية بعض الجثث، بما في ذلك شيخ القرية، عمر البياسي، الذي يعتبره البعض موالياً للحكومة.
يظهر احد تسجيلات الفيديو من البيضا ثمانية اطفال ميتين على سرير. طفلان صغيران متعانقان وجها لوجه، وطفل رضيع مستريح على كتف امرأة ميتة.
يوم 4 ايار (مايو)، بدأ القصف واطلاق النيران على راس النبع. اختبأ ابو يحيى، احد سكان المنطقة، في منزله مع زوجته وطفليه الذين بقوا هادئين: “غرائزهم سيطرت عليهم”. وقال انه خرج بعد يومين ليجد جيرانه، وهم عائلة من 13 فرداً، مقتولين بالرصاص امام حائط.
يوم 6 ايار (مايو) سمحت قوات الامن لعاملي الصليب الاحمر بالدخول. قلبت الجثث ونقلت بجرافات الى سيارات شحن ورميت في قبر جماعي، حسب قول السيد ابو الخير.
عرض السكان صوراً مبتسمة لاطفال قالوا انهم قتلوا: معز البياسي، سنة واحدة، وشقيقته افنان، 3. الشقيقات الثلاث حليمة، وسارة، وعائشة. الطفلة الجعدة الشعر نور، وفاطمة الاصغر من ان يكون لها شعر لكن في اذنيها قرط.
قال السيد عبادة ان السكان كانوا ساخطين الثلاثاء عندما عرض وفد من الحكومة دفع تعويضات عن المنازل المتضررة وقالوا: “ماذا تجني اذا اعدت بناء بيتك وعائلتك كلها ميتة؟”.
السنة المشردون الذين كانوا قد التجأوا هناك يفرون، ويقول بعض الناس ان العلويين لم يعد مرحباً بهم.
قال عمر: “الآن من المستحيل عليهم ان يبقوا في سوريا”.